ثلاثون تظاهرة ولا تعب

فاطمة العيساوي

ثلاثون تظاهرة خرجت في لندن للتنديد بالإبادة في غزّة التي مضى عليها إلى حينه أكثر من 700 يوم. لم يقلّ عدد المشاركين في هذه التظاهرات عن مائة ألف في ظروف البرد القارس أو الحر الشديد، وفاق عديدهم نصف مليون في حالاتٍ خاصة. ما سرّ تظاهرة لندن التي لم تتوقف عن استقطاب المشاركين، حتى تحولت إلى حراك شعبي بحد ذاته، رغم الشيطنة ومحاولات المنع المتواصلة؟

رافقتُ التظاهرة، منذ أيامها الأولى، عندما كانت تخرج أسبوعيّاً في شوارع لندن، رغم محاولة عرقلتها وشيطنة المشاركين فيها عبر نعتهم بأصوات الحقد والمؤيدين لجرائم الاغتصاب، من سياسيين نافذين وبعض الإعلام. خرجت تظاهرة لندن رغماً عن أنف المعرقلين، ورغم التهديدات الأمنية والخوف من توقيفاتٍ اعتباطيةٍ بحجة دعم حركة حماس أو حزب الله. لم يكن واضحاً في المسيرات الأولى أن الحرب على غزّة ستأخذ مسار إبادة لم نشهد مثيلاً على وحشيتها. في بداياتها، حملت التظاهرات طابعاً خاصّاً، وكانت تُعبّر، بشكل رئيسي، عن الجاليات المعنية مباشرة بالنزاع، من العرب والمسلمين، بمن فيهم الجاليتان، الباكستانية والبنغالية، وغيرهما. كانت الملامح السمراء وغطاء الرأس للنساء حاضرةً بقوة، كذلك كانت مجموعات من الشبّان من فرق العمل الخيري تحثّ المارّة على التبرّع لمساعدة “إخواننا وأخواتنا” في غزّة وفلسطين. تبدّلت التظاهرة التي باتت شهرية، وتغير النسيج المجتمعي لها، لتصبح معبّرة عن التنوّع الواسع للمجتمع البريطاني، ولتضم شرائح مجتمعية باتت أكثر ظهوراً وتأثيراً فيها. باتت الشعارات سياسية في معظمها تذكر بتاريخ النزاع ومسؤولية الحكومة البريطانية والغرب عموماً في دعم الإبادة. بات من المعتاد أن نمشي جنباً إلى جنب مع متظاهرين بيض البشرة من البريطانيين قدموا من مختلف أنحاء البلاد للمشاركة في التظاهرة الشهرية التي باتت المجال الوحيد والأساسي للتعبير عن غضبنا، وسط لامبالاة الإعلام البريطاني إلى حد كبير. واظبت مجموعاتٌ يهودية متنوّعة على المشاركة إلى جانبنا، يحمل أفرادها شعاراتٍ تعلن هويتهم الدينية بوضوح إلى جانب أخرى ترفض تحميلهم مسؤولية الإبادة تبعاً للدعاية الإسرائيلية. تعرّفنا إلى مجموعاتٍ وشبكاتٍ من التضامن لم نكن نسمع بها سابقاً مثل “الشبكة العالمية لليهود المناهضين للصهيونية”، أو “اليهود من أجل حزب العمّال” كما برز حضور الشباب من طلاب الجامعات، وخصوصاً من خلفيات أفريقية ولاتينية، ممن حملوا معهم وعياً سياسياً خاصاً، يربط بين غزّة والاحتلال ونظام الاستعمار العالمي القديم الجديد.

حالة تضامن إنسانية مع غزة في مظاهرات لندن باهرة عابرة للمجموعات والجنسيات والأعراق

يصعب تعريف هذه المجموعة البشرية أو توقع ما ستكون عليه في كل حلقة من حلقاتها. ليست التظاهرة ارتجالية، بل تقف خلفها شبكة واسعة من المنظمات مثل حملة التضامن مع فلسطين، وتحالف أوقفوا الحرب، وأصدقاء الأقصى، وغيرها من نقابات واتحادات طلابية، إلا أن المشاركين ليسوا بالضرورة مرتبطين بأيٍّ من هذه المجموعات، بل مجرّد أفراد أو مجموعات قرروا المشاركة تضامناً، ورفضاً للصمت واللامبالاة في وجه الإبادة. قالت لي كاهنة في ثوبها الأسود الطويل وهي ترفع علم فلسطين وشعار الكنيسة إنها قصدت لندن مع مجموعة من سكان مدينة صغيرة في ويلز في السادسة صباحاً ليتمكّنوا من الانضمام إلى التظاهرة منذ بدايتها. روى لي رجل إنكليزي أنه يشارك في كل تظاهرة ويواظب على مراسلة نائب منطقته للضغط عليه لاتخاذ موقفٍ من أجل وقف إطلاق النار في غزّة. يقول إن هذه المبادرات، على قلّة مردودها السياسي، تمنحه الشعور أنه يفعل شيئاً ما. مثلهما يخرج إلى الشارع في كل تظاهرة ما لا يقال عن مائة ألف مشارك، تعبيراً عن تضامنهم. تتلوّن التظاهرة بلون تطورات الأحداث في الحرب المتواصلة. على سبيل المثال، خرجت الأعلام الإيرانية بقوة في مناسبة الحرب بين إسرائيل وإيران، إلا أنها غابت أو تراجعت، ليعود التركيز على غزّة مجدّداً.

 ليست لندن غريبة عن تظاهرات التضامن والتعبئة الشعبية نصرة لقضايا حقوقية أو إنسانية، والسياسة لم تكن يوماً بعيدة عن شوارعها

ليست لندن غريبة عن تظاهرات التضامن والتعبئة الشعبية نصرةً لقضايا حقوقية أو إنسانية، والسياسة لم تكن يوماً بعيدة عن شوارعها. خرج الملايين إلى الشارع ضد غزو العراق في 15 فبراير/ شباط 2013، وقدر آنذاك الحراك الذي شمل 600 مدينة في العالم بين ستة وعشرة ملايين مشارك، في ما اعتُبر أكبر تظاهرة احتجاج في تاريخ البشرية، بين هؤلاء حوالى مليون خرجوا في لندن وحدها بحسب شبكة الإعلام البريطانية (بي بي سي). لكن تظاهرة لندن للتضامن مع غزّة مختلفة، إذ إنها انطلقت في أيامها الأولى وسط تأييد واسع للعمليات العسكرية الإسرائيلية بوصفها دفاعاً عن النفس، واستمرّت رغم عمليات التخويف والتشهير والتعتيم الإعلامي شبه الكامل، كما محاولة الموازنة بينها وبين تظاهرات محدودة خرجت تأييداً لإسرائيل باتت تقتصر أخيراً على بضع عشرات من المشاركين. تعبنا من تصفّح الأخبار والصور المروّعة على أجهزة الخلوي التي تصل إلينا من غزّة، ولم تتعب اقدامنا من السير في شوارع لندن في التظاهرة الشهرية، وغيرها من المناسبات التي تنظمها جمعيات مختلفة على هامشها. أبرز هذه الأخيرة الاعتصام المفتوح لمؤيدي مجموعة “العمل من أجل فلسطين” (فلسطين أكشن) المصنفة إرهابية، وعادة ما يعتقل ما لا يقل عن أربعمائة من مناصريها في كل مرّة يخرجون للتظاهر معنا، لمجرّد حمل شعارات تقول إنهم ضد الإبادة في غزّة ويؤيدون المجموعة. أفادت “بي بي سي” إن 890 مناصراً للحركة أُوقِفوا في التظاهرة الأخيرة في 6 سبتمبر/ أيلول الحالي.

ليست تظاهرة لندن حزباً أو حراكاً منظّماً، بل هي أشبه بحالة تضامن إنسانية باهرة عابرة للمجموعات والجنسيات والأعراق. أشعر بلا معنى المشاركة في كل تظاهرة، فيما لا يزال القتل في غزّة ماضياً من دون أن يؤدّي صراخنا إلى أي نتيجة. ولكن من المهم الاعتراف بأن تظاهرة لندن شكلت العمود الفقري لمختلف أشكال التضامن مع فلسطين في بريطانيا وربما خارجها، كذلك شكّلت مختبراً مفتوحاً لقياس التضامن وأشكاله ومعانيه، بدءاً من غزّة وفلسطين، وصولاً إلى قضايا التمييز والعنصرية والفصل العنصري والعدالة الاجتماعية وغيرها. وكما يقول شعار رفعته إحدى المشاركات: ثمّة الكثير مما لا يمكن أن نتحمله إلا مع بعضنا. والشعار معبّر إلى حد كبير عن حالة وحدتنا في معايشة الإبادة والحاجة الملحّة للتضامن. شكراً لندن.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الشعب الأوروبي الحر وخاصة في لندن وقف مع شعبنا في غZة وداعماً لوقف الحرب المتوحشة القذرة التي تشنها قوات الإحتلال، تجاوزت الـ 30 مظاهرة خلال الـ 700 يوماً من الحرب ولم يكل أويمل من التظاهر لأنه مؤمن بحق الشعوب بالحياة الكريمة ، بالبرد والمطر والثلج والحرارة المرتفعة كانت المظاهرات، وعدد المتظاهرين يتجاوز الـ 100 الف ، الف تحية وإكبار لهم .

زر الذهاب إلى الأعلى