
منذ سقوط النظام السابق وتشكّل السلطة الانتقالية، وما تلا ذلك من تأخر في إنجاز ملفات العدالة الانتقالية، واشتعال الأحداث في مناطق الساحل ثم السويداء، ومع ضبابية استحقاقات اتفاق العاشر من آذار بين السلطة الجديدة و”قوات سوريا الديمقراطية-قسد”، والقلق المتزايد بشأن الأوضاع الأمنية والاقتصادية، يتواصل الجدل حول مفهوم اللامركزية في سوريا.
وهو جدل واسع يعكس حجم الحاجة الوطنية إلى صيغة حكم محلي عادلة ومتوازنة، تستجيب لتطلعات مختلف المكوّنات، وتحافظ في الوقت ذاته على وحدة البلاد، وهنا تبرز مسؤولية السلطة الجديدة في تحويل النقاش من حالة الاستقطاب إلى رؤية عملية، عبر إطلاق طاولة حوار وطني جديد، تضع اللبنة الأولى لمشروع اللامركزية المنتظَر.
تجربة الماضي أظهرت صورة مشوَّهة للحكم المحلي في عهد النظام الأسدي، حيث تم إفراغ المجالس والإدارات المحلية من مضمونها، وحُصرت القرارات والخدمات في يد المركز، فباتت الهياكل المحلية مجرد واجهات شكلية ينخرها الفساد والمحسوبية..
وهكذا مع بدء السلطة الجديدة، مؤخراً، بطرح فكرة اللامركزية الإدارية على أساس “القانون 107 لعام 2011″، الذي جعل المحافظين المعينين من قبل الرئاسة محور الحكم المحلي، ومع استمرار طروحات “قسد” الأقرب للفيدرالية، المرفوضة سواء شعبياً أو من أغلب النخب السورية، يستمر خطاب الانفصال الذي ارتفع في السويداء، بينما ترى العديد من المثقفين والنخب السورية التي كانت تعارض نظام بشار الأسد، أن الطريق الأمثل هو لامركزية إدارية ومالية تستند إلى انتخابات محلية شفافة، وتمنح المجتمعات دوراً أكبر في إدارة شؤونها، حيث تبدو اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة خياراً وسطياً يضمن مشاركة أوسع للسوريين جميعاً، ويصون وحدة سورية السياسية.
تجربة الماضي أظهرت صورة مشوَّهة للحكم المحلي في عهد النظام الأسدي، حيث تم إفراغ المجالس والإدارات المحلية من مضمونها، وحُصرت القرارات والخدمات في يد المركز، فباتت الهياكل المحلية مجرد واجهات شكلية ينخرها الفساد والمحسوبية، وقد عزّز ذلك سلطة المحافظين والأجهزة الأمنية ومسؤولي الحزب، بما رسّخ مركزية مفرطة عطلت إمكانات التنمية المحلية.
اليوم، وعلى الرغم من التغيير السياسي، ما زال أثر المركزية حاضراً في دمشق، حيث يتناول العديد من المراقبين تفاصيل عن وقائع ترتبط بدوائر تسيطر على السلطة التنفيذية والحكومة الانتقالية، التي تم تجميع كل شؤون الاقتصاد والتجارة الخارجية والتموين والتجارة الداخلية وحماية المستهلك والصناعة في واحدة من وزارتها هي وزارة الاقتصاد والصناعة، إضافة إلى ربط كل ما يتعلق بالموارد الطبيعية والخدمات العامة من النفط والغاز إلى الكهرباء والموارد المائية في وزارة الطاقة.
وفي الحقيقة إن هذا الواقع لا بد من تجاوزه، والطريق الأفضل في ذلك هو أن تقوم السلطة الجديدة بتبني إصلاحات مؤسسية واضحة، والحد من مخاوف السوريين بتكرار أخطاء النظام البائد، وأخذ زمام المبادرة بإطلاق مشروع اللامركزية باعتباره أحد مسارات بناء الدولة الجديدة، وبالتالي نقل النقاش من مستوى الجدل السياسي إلى مستوى الحوار الوطني حول الحقوق الدستورية، بحيث تُرسَّخ اللامركزية كخيار وطني جامع لا يمكن تجاوزه.
ولإنجاز حوارٍ وطني فعال حول مشروع اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، الذي يبدو مشروعاً متوازناً يمكن أن يلقى قبولاً عاماً، يُنصح أن يكون هذا المشروع قائماً على ركيزتين أساسيتين:
- الأولى: هي أن اللامركزية ليست مجرد آلية إدارية، بل هي ترسيخ لمبدأ المشاركة الشعبية في القرار، والذي أقره القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، فالمشاركة الشعبية حق دستوري وقانوني وشرعي أيضاً.
- الثانية: هي أن يكون المشروع ضمانة للعدالة في توزيع الموارد، وهو ما أشار إليه النص القرآني أيضاً بقوله تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾، بمعنى ألا تتركز السلطة والثروة في أيدي نخبة محدودة، بل تُعاد توزيعها على مختلف فئات المجتمع.
وفي الواقع فإنّ اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة تعد مدخلاً لتحقيق عدة أهداف متوازية، وتتضمن آليات تنفيذ واضحة ومعروفة، فهي تسعى لترسيخ الوحدة الوطنية عبر الاعتراف بالتنوع من دون تمييز، لتمنح مختلف المكونات السورية كمواطنين حقوقاً متساوية، في التعبير عن أنفسهم ومصالحهم وتطلعاتهم، والمشاركة في رسم مستقبل البلاد، من دون استثناءات أو مزايا خاصة بفئة أو منطقة معينة من دون أخرى.
ولتحقيق ذلك، فمن البديهي أن يتم تطبيق اللامركزية الإدارية والمالية وفق التقسيمات الإدارية المعترف بها رسمياً، فيقل التهميش التاريخي للكثير من المناطق، وتتحقق العدالة المكانية المطلوبة من خلال توزيع متكافئ للسلطة والموارد، لا سيما في مواجهة ومعالجة نتائج وآثار الحرب الكارثية، وتفاوت أضرارها على مستوى الجغرافيا، الأمر الذي يتطلب تحقيق الكفاءة والفعالية في القرب من المواطن الأكثر احتياجاً، لا سيما إذا كان منتجاً أو يحتاج إلى دعم لمباشرة أو تطوير دوره في الإنتاج.
وإنّ ما سبق لا يعني أي انعزال بين المحافظات السورية عن بعضها، ولا يمكن أن يؤدي إلى تفتيت قدرات البلاد، فاللامركزية الإدارية والمالية الموسعة قادرة على توسيع نطاق التشاركية في إعادة بناء الدولة عبر المساهمة المحددة قانونياً في الخزينة العامة بصورة شفافة، وذلك في نفس الوقت الذي يتم فيه عكس التعافي الاقتصادي على حياة المواطنين في كل وحدة إدارية، بالربط بين القدرة على تحقيق الموارد “الإنتاجية الاقتصادية” واستخدام جزء منها في تلبية الاحتياجات، لتأمين حياة كريمة وزيادة التراكم الرأسمالي فيها، وتحقيق الاستدامة، في حين يتم تخصيص ما يلزم من واردات الخزينة العامة، وأيضاً من الثروات الوطنية، لسد أي فجوات في احتياجات المناطق الأقل إنتاجية وموارداً، ولاسيما في قطاعات التعليم والصحة، وخلق فرص العمل، في حين يمكن تسميته بـ”التكافل الاجتماعي الوطني”.
نظام الحكم المحلي القائم على اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة ليست مغامرة سورية خالصة غير مضمونة النتائج، بل هي مسار وخيار عالمي لإدارة التنوع بانضباطٍ عالٍ، ويمكن الاستفادة في جميع مراحل إطلاقه وقوننته وتنفيذه عبر هيئة مستقلة من تجارب العديد من الدول..
وهكذا فإنّ اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة تبدأ من تعزيز التنمية المحلية عبر تمكين المجتمعات من استثمار إمكاناتها الذاتية وتطويرها، لكنها تعمل في الوقت نفسه على سد الفجوات الاجتماعية بآليات تضامن وطني تعالج تفاوت القدرات والإمكانات بين مختلف المحافظات والمدن والمناطق.
ونظام الحكم المحلي القائم على اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة ليست مغامرة سورية خالصة غير مضمونة النتائج، بل هي مسار وخيار عالمي لإدارة التنوع بانضباطٍ عالٍ، ويمكن الاستفادة في جميع مراحل إطلاقه وقوننته وتنفيذه عبر هيئة مستقلة من تجارب العديد من الدول، بما فيها تلك التي خرجت من نزاعات مماثلة للحالة السورية، والتي بنيت في غالبها على تشكيل مجالس محلية منتخبة بميزانيات مستقلة، وتعزيز صلاحيات القضاء الإداري للرقابة على القرارات المحلية، ووضع معايير وطنية للحوكمة والشفافية في إدارة الموارد.
ختــــامـاً، إن تبنّي هذا النهج سيمنح السوريين فرصة حقيقية للمشاركة في إعادة بناء دولتهم، وسيتيح للسلطة الانتقالية وحكومتها تعزيز حضورها الوطني عبر فتح المجال أمام المجتمع لإدارة شؤونه بفاعلية أكبر، في حين تحتفظ السلطة المركزية بمسؤولياتها الكبرى في السياسة الخارجية والدفاع والأمن الوطني والإشراف والرقابة المالية وإدارة النقد الوطني، وربما التعليم أيضاً.
وبهذا تتحول اللامركزية من مطلب جدلي إلى مشروع عملي متوازن، يضع سوريا على طريق استعادة عافيتها وبناء مستقبلها المشترك.
المصدر: تلفزيون سوريا