
لا تستريح إسرائيل في المنطقة ولا تستكين، فهي ترى اللحظة بعينين متناقضتين. فمن جهة، تعتبر هذه اللحظة فرصة ذهبية للهيمنة الإقليمية ولتكريس نفسها كـ«إسرائيل الكبرى»، إن لم يكن عبر التوسع الجغرافي المباشر، فعبر النفوذ والسيطرة على القرار في المحيط، وربط دول المنطقة جيوسياسيًا بها، ناهيك عن تقطيع أوصال المنطقة. هذه الرؤية المتحفّزة تدفعها إلى تكثيف جهودها السياسية والعسكرية، خاصة في ظل عقلية بنيامين نتنياهو الذي لا يخفي أهدافه ومخططاته، بل كتب عنها صراحة في مؤلفاته التي تضع التوسع الإسرائيلي في قلب الاستراتيجية.
لكن من الجهة الأخرى، تنظر إسرائيل إلى اللحظة باعتبارها تهديدًا وجوديًا غير مسبوق. فمنذ 7 أكتوبر، تعرضت بنيتها النفسية لصدمة كبرى، واهتزت صورة المؤسسة العسكرية، كما اهتزت ثقة المجتمع الإسرائيلي بقدرة دولته على الاستمرار. تكررت الأزمات الداخلية والخارجية، وأُثيرت أسئلة وجودية حول مستقبل إسرائيل. هذه النظرة الإسرائيلية المتناقضة تترافق في الوقت نفسه مع تغيرات جوهرية بتراجع النفوذ الإيراني مقابل تحفّز أمريكي وخليجي في المنطقة، بما يحمله ذلك من انعكاسات ديمغرافية وسياسية. إلى جانب ذلك، ترى إسرائيل بانقلاب النظام في سوريا نفوذًا تركيًا على حدودها، في حين يُعاد تشكيل سوريا الجديدة من مجموعات وقيادات أعلنت منذ بداية حياتها أن هدفها النهائي هو تحرير فلسطين، وهي تمتلك القدرة على الحشد المفتوح في المنطقة. هذه العوامل تجعل اللحظة بالنسبة إلى إسرائيل لحظة خوفٍ وجودي، وهو ما يدفعها إلى التصلّب والجنون في التعامل مع الملفات الإقليمية.
لو أن التواصل بين سوريا وإسرائيل أصبح علنيًا، إلا أنه لم يستطع أن يمنع توتّر العلاقة التي تستمر فيها إسرائيل في محاولة التقدّم ورسم خطوطٍ حمراء جديدة.
وإذا بدت النظرتان متناقضتين، إلا أن النتيجة واحدة: تحفّز دائم، محاولات توسّع، ورفض قاطع لكل حلول التهدئة قبل سحق الخصوم أو إخضاعهم بالكامل. بل إن إسرائيل حوّلت معركتها إلى معركة ديمغرافية تهدف إلى طرد سكان غزة والمناطق المحاذية أو إجبارهم على الولاء التام، مع فرض مراقبة لصيقة على من يبقون ليس في فلسطين فحسب، بل في المنطقة ككل.
في غزة، تتكرر المبادرات السياسية، وتبدي حماس مرونة بالموافقة على عددٍ منها، لكن إسرائيل ترفضها جميعًا وتطلق عملية عسكرية جديدة تلو الأخرى. الحرب تبدو مفتوحة لا هدف لها سوى التهجير، ولو على مراحل، مع سحقٍ للبنية الحياتية في القطاع ليكون مكانًا مستحيل العيش فيه ولو انتهت الحرب.
في لبنان، ترفض إسرائيل تقديم أي تنازل. بل إنها تطالب، مع الأميركي، بمنطقة عازلة في الجنوب تكون خالية من السكان مع حضورٍ أميركي فيها، وتسعى لإنهاء القدرات العسكرية لحزب الله من دون تقديم أي مقابل سياسي أو أمني. بل أكثر من ذلك، تعمل إسرائيل على تقويض دور قوات اليونيفيل، وإضعاف الجيش اللبناني ومنعه من أن يكون شريكًا حقيقيًا على خطوط التماس. كل ذلك يعكس أن إسرائيل لا تبحث عن تسوية بقدر ما تبحث عن فرض واقع جديد بالقوة.
في اليمن، صعّدت إسرائيل عملياتها بشكلٍ ملحوظ. ففي 28 أغسطس نفّذت غارة جوية في قلب العاصمة صنعاء، استهدفت مواقع قيادية، وأدّت إلى اغتيال رئيس حكومة الحوثيين أحمد الرهوي وعددٍ من الوزراء والمسؤولين. هذه الضربة مثّلت تصعيدًا إسرائيليًا غير مسبوق في الساحة اليمنية وإنذارًا يطال البيئات الحاضنة والأجنحة السياسية لمجموعات إيران في المنطقة مهما بَعُدت جغرافيًا.
أما في سوريا، فيتسارع المشهد؛ فمن قصفٍ كان يستهدف أطراف دمشق بين الحين والآخر، انتقلت إسرائيل في 16 تموز/يوليو 2025 إلى ضرب قلب العاصمة نفسها، مستهدِفةً مدخل مقر وزارة الدفاع وموقعًا قرب القصر الجمهوري، بذريعة حماية الدروز في خضم أحداث السويداء.
لم تتوقف العمليات عند هذا الحد. فبعد أيام، وُثّقت ضربات مركّزة داخل السويداء طالت مناطق ولغا والمزرعة ونجران والثعلة، تبعتها غارات بمسيّرات على مواقع في الكسوة أودت بحياة جنودٍ سوريين. وعلى الأرض، ظهرت سابقة جديدة: توغّلات برية إسرائيلية أوسع.
دمشق ردّت بلهجة غير معهودة، إذ وصفت الهجمات بأنها «تصعيدٌ خطير» وأكدت «حق الدفاع الشرعي». في هذا المناخ المتوتر، خرج الرئيس السوري أحمد الشرع بخطابٍ مسجّل مساء 17 تموز/يوليو، هاجم فيه إسرائيل، متهمًا إياها بالسعي إلى خلق الفوضى ودفع بلاده إلى حربٍ أهلية. قال الشرع: «لن نمنحهم فرصة توريط شعبنا في الحرب التي يريدون إشعالها على أرضنا. حربٌ هدفها تفكيك وطننا وإحداث الفوضى والدمار».
أكدت تصريحات الشرع وعيَ الإدارة السورية للرؤية الإسرائيلية، مقابل تصريح نتنياهو اللافت عن سوريا بأنه: ليس «شخصًا ساذجًا وأفهم تمامًا مع من نتعامل في سوريا، ولهذا السبب استخدمنا القوة»، على حدّ تعبيره، وهو ما يُظهر ما تُضمره إسرائيل تجاه سوريا الجديدة.
ولو أن التواصل بين سوريا وإسرائيل أصبح علنيًا، إلا أنه لم يستطع أن يمنع توتّر العلاقة التي تستمر فيها إسرائيل في محاولة التقدّم ورسم خطوطٍ حمراء جديدة.
تركيا، التي رأت في هذه الخطوط الحمراء تهديدًا مباشرًا لها، بدأت بالتحرّك الاستراتيجي. فتركيا كثّفت تحركاتها العسكرية الاستراتيجية في الآونة الأخيرة، فأعلنت عن خطواتٍ عملية مثل تعزيز مشاريع تطوير الصناعات الدفاعية، وخاصة في مجال الطائرات المسيّرة وأنظمة الدفاع الجوي، وإعلان خططٍ لتوسيع شبكة الملاجئ المدنية في عددٍ من المدن الكبرى لمواجهة أي سيناريو حربٍ محتملة، وتسريع برامج تحديث الجيش وإعادة هيكلته لمواجهة تهديداتٍ غير تقليدية.
هذه الإجراءات عكست إدراك تركيا بأن الخطر لم يعد نظريًا، بل صار ملموسًا يستدعي التحضير العسكري والمدني على حدٍّ سواء.
أصبحت استراتيجيات المنطقة، من إيران وتركيا إلى سوريا الجديدة وحزب الله، قائمةً على كسب الوقت والإعداد لصراعٍ قادم مع إسرائيل.
أما إيران، فهي لم تُغلق بعد صفحة الصراع مع إسرائيل رغم انتهاء حرب 12 يومًا. صحيحٌ أن هناك مفاوضاتٍ قادمة مع الولايات المتحدة، لكن مقدماتها لا توحي بإيجابية. حتى الآن، يبدو التوجّه الإيراني هو التمسّك بالواقع الحالي، ومحاولة كسب الوقت بانتظار استعادة شيء من القوة لمعركةٍ قادمة. إيران تعرف أن ميزان القوة مختل، لكنها في الوقت نفسه ترى الحلول أمامها بين الاستسلام والمواجهة الحتمية، فتختار تأخيرها.
لقد كانت استراتيجية الجميع في السنوات الماضية هي تجاهل «الفيل في الغرفة»، فكانت الاستراتيجيات هي محاولة إبعاده عبر التفاوض وادّعاء القوة وبناء شيءٍ منها، لكن من دون استشعار خطرٍ قريب. لكن الأحداث الأخيرة أكدت حقيقتين متناقضتين: أن إسرائيل فرعون المنطقة بقوة الولايات المتحدة، وأن التفاوض وحده لم ولن يكون كافيًا لمنع إسرائيل من التهام المنطقة.
من هنا، أصبحت استراتيجيات المنطقة، من إيران وتركيا إلى سوريا الجديدة وحزب الله، قائمةً على كسب الوقت والإعداد لصراعٍ قادم مع إسرائيل. الجميع يدرك اختلال ميزان القوى، ويحاول تأجيل الصدام قدر الإمكان، لكنهم في الوقت نفسه يستعدّون له.
هذا الإدراك العميق هو ما منع القوى المذكورة من الانخراط في اقتتالٍ داخلي واسعٍ بينها، رغم حجم الثارات السابقة والدوافع المستمرة لذلك. الحسابات الاستراتيجية المرتبطة بوجود إسرائيل ـ الوحش الذي يحاول التهام المنطقة ـ دفعت الجميع إلى التروي وإلى التعامل مع صراعاتهم كملفات لا تقود لإفناء بعضهم، بانتظار المعركة الأكبر التي تبدو، في نظر الجميع، مسألة وقتٍ لا أكثر.
المصدر: تلفزيون سوريا