على كثرة الملفات والقضايا المشتركة بين العرب والولايات المتحدة والتي تستدعي دائما جولات الدبلوماسيين والمسؤولين الاميركيين في الشرق الاوسط فإن جولة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو الاخيرة على أربع عواصم، لا علاقة لها بالصراعات الدائرة في سورية واليمن، ولا بالمشاكل المعقدة في العراق ولبنان، ولا بالأزمة الجديدة بين مصر واثيوبيا والسودان بسبب سد النهضة.
الجولة مخصصة حصرا لاقتناص ما يمكن اقتناصه من دول العرب الناشزة لصالح التطبيع مع العدو الاسرائيلي، واصطياد مزيد من الدويلات الضعيفة المرتعشة، بسبب أزمات داخلية ، أو بسبب التهديد الايراني للمنطقة بعامة ، وإمارات الخليج العربي بخاصة . ذلك أن خطوة الامارات العربية الاعتراف بالعدو مؤخرا أوجدت فجوة في الصف العربي الذي يفترض أنه مختلف على كل شيء، وموحد على (قضية العرب الأُولى والأَولى) التي كانت وما زالت تمثل إحدى مقومات وحدة العرب !
رئيس الدبلوماسية الاميركية ، ورئيس استخباراتها السابق ، رجل خبير ويعرف الكثير عن شؤون الشرق الاوسط ، قال من اسرائيل المحطة الاولى في جولته ( متفائل جدا أن نرى دولا عربية أخرى تنضم الى التطبيع . وتابع ( إن الفرصة المتاحة للعمل معا والاعتراف باسرائيل يمكن أن تخلق فرصا كبيرة للشرق الاوسط) .
لقد أغرى نجاح ترامب وطاقمه الصهيوني الهوى بدفع الإمارات الى ميدان ( السلام المجاني) الذي يعطي اسرائيل بلا مقابل ، ويخصم من رصيد العرب ، أغرى صناع القرار الاميركيين بامكان تحويل الخطوة المنفردة ” موسما للتطبيع ” في فترة دقيقة للرئيس الجامح للفوز مرة ثانية بمفاتيح البيت الأبيض ، وكذا بالنسبة لنتنياهو المحاصر باتهامات الفساد ، والملاحقات القضائية ، وعقوبة السجن التي ستنتزع كل انجازاته القياسية على أسلافه من رؤساء وزراء وزعماء اسرائيل . ولا شيء يمكن أن ينقذ رأسه من السقوط المروع سوى فوزه مرة أخرى في انتخابات استثنائية ، باتت متوقعة يدخلها برصيد قياسي راكمه في جني ثمار (السلام مقابل السلام) مع العرب الذين كانوا يشترطون دوما (السلام مقابل الارض) . وكان نتنياهو يزايد على خصومه الداخليين بأنه سيتمكن من ترويض العرب وارغامهم على قبول معادلة ( السلام مقابل السلام ) التي كانت مستحيلة طوال سبعين عاما من الصراع .
اللهاث وراء انتصارات كبيرة من نوع السلام في الشرق الاوسط ، ودفع العرب للاعتراف باسرائيل من أهم العوامل التي تجمع ترامب ونتنياهو ، وتوحد أجندتيهما الانتخابية حاليا . ومطلوب من العرب التضحية ليعود الاثنان للسلطة ، مقابل وعود بحمايتهم من الوحش الايراني المفترس .
كان الاثنان يأملان أن تكون السودان هي الجائزة الكبيرة لجهود بومبيو ، تغريهما موافقة رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان قبل شهور لعقد لقاء قمة مع نتنياهو في كمبالا وموافقة هذا على فتح المجال الجوي السوداني للطيران الاسرائيلي ( بلا مقابل أيضا ) رغم حاجة السودان الماسة لرفع العقوبات الاميركية والدولية المفروضة عليه منذ ثلاثين سنة ، وسببت له مجاعات منهكة متتالية . بيد أن ( تحالف قوى الثورة والتغيير ) الذي قاد الحراك الشعبي طوال العام الفائت الثورة على عمر البشير وأسقطته ، وأسقطت أول نظام ديني توتاليتاري في الوطن العربي اعترض على اللقاء المذكور ، ورفض تحويله بداية تطبيع شامل ، ما شكل حاجز صد لجهود وآمال واشنطن وتل ابيب مع عسكر السودان الأقل تشددا من الشركاء السياسيين . فأبلغ رئيس الوزراء حمدوك الزائر الاميركي الأول منذ عام 2004 أن مجلس الرئاسة والحكومة مؤسستان مؤقتتان لا صلاحية لهما لاتخاذ قرار حساس كهذا . وطالب بومبيو بدعم مساعي بلاده لرفعها من قائمة الدول الراعية للارهاب وتسهيل حصولها على مساعدات دولية قبل بحث مسألة الاعتراف باسرائيل والتطبيع . ولا شك ان هذا الموقف شكل صدمة للوزير الاميركي وأحبط خطته لاشتراط تلبية المطالب السودانية مقابل الاعتراف والتطبيع مع اسرائيل ، لا سيما أن السودان لا تواجه تهديدا من ايران أو غير ايران ، كحال الامارات وبقية دول الخليج التي يركز الاميركيون عليها في هذه الفترة ، وكأنهم يريد جني ثمار سياسة جلب الوحش الايراني المفترس الى العراق بأنفسهم ، عام 2003 ، وغض الطرف عن توسعه في المنطقة إبان عهد الرئيس أوباما الذي كان عاشقا للايرانيين .
هرب قادة الخرطوم للأمام ، وأجَّلوا الاستحقاق الحساس الى ما بعد نهاية المرحلة الانتقالية بعد ثلاث سنوات ونيف . وسيكتفي الطرف الآخر بما كسبه من السودان في هذه الفترة، أي السماح للطيران الاسرائيلي المدني بعبور مجال السودان الجوي ، والتعاون لاعادة اللاجئين السودانيين لاسرائيل ، وإعادتهم لبلادهم . دون الخوض في ملف حساس هو دعم اسرائيل السري للفصائل العسكرية المتمردة في السودان .
في المحطة الثالثة وصل بومبيو (المنامة) التي رشحها وزير الاستخبارات الاسرائيلي لتكون الدولة الخليجية الثانية بعد الامارات في الاعتراف باسرائيل ، ربما بسبب ترحيب البحرين بخطوة الامارات واعتبارها تعزيزا لفرص السلام ، إلا أن الجولة انتهت بدون شيء رسمي معلن . وكان الزائر الاميركي قد صرح في بداية زيارته أنه يتمنى ألا تضيع فرصة جذب مزيد الدول الى مسيرة التطبيع . قال بومبيو ( من الضروري الاستفادة من زخم الاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي ) وأضاف ( أعتقد أن قرار الإمارات يخلق مناخا يجعل من الأسهل أن تحذو دولة أخرى حذوه ، والمزيد من الدول بعد ذلك ) . وأكد أن ( الولايات المتحدة واسرائيل تعملان على حث الدول العربية للاقتداء بالامارات ) .
وقبل أن يغادر بومبيو المنامة غرد على تويتر معلقا على اجتماعه مع الملك حمد بن عيسى وولي العهد ( ناقشنا أهمية تعزيز السلام والاستقرار الإقليميين ، لا سيما أهمية وحدة الخليج ، ومواجهة نفوذ إيران الخبيث في المنطقة ) . ويشي هذا التعليق بأن بومبيو بحث مع قادة البحرين الخطر الايراني على دول الخليج ، وتهديدات حكام طهران لها . وهي المرة الاولى خلال الجولة كلها التي يتطرق فيها لقضية غير التطبيع مع اسرائيل . ففي عواصم الخليج قضية أكثر أهمية والحاحا من الاعتراف بالعدو هي التصدي للخطر الايراني .
في محطته الاماراتية بحث بومبيو مع نظيره عبد الله بن زايد مسألة اقليمية اخرى ، إضافة للتهديدات الايرانية لدول الخليج العربية هي الأوضاع في ليبيا حيث أكد الطرفان ضرورة تخفيف التصعيد . وجدد الطرفان حرصهما على تعزيز السلام بين اسرائيل والامارات وفي المنطقة .
وقالت مصادر غير رسمية أن المحادثات شملت شراء الامارات طائرات إف 35 المقاتلة التي كانت اسرائيل تعترض على بيعها لأي دولة عربية حفاظا على تفوقها العسكري على الدول العربية . وقالت المصادر إن الامارات اشترطت الحصول عليها في محادثاتها مع الاميركيين والاسرائيليين قبل اعلان الاعتراف باسرائيل . ويبدو أن المحادثات حول الصفقة تجري في السر. وسيكون الحصول على هذه الطائرات كسرا للقاعدة التاريخية .
وشملت جولة بومبيو زيارة عمان أيضا ، وهي من الدول العربية القليلة التي باركت اعتراف الامارات باسرائيل . وهو موقف يتسق مع سياستها تجاه القضية الفلسطينية منذ كامب ديفيد 1979 لا تعارض اقدام الدول العربية على الاعتراف بالعدو ، ولكنها تحذر الاقدام على الخطوة ذاتها بسبب وقوعها بين السعودية وايران واسرائيل . وهي تمارس قدرا من التطبيع الواقعي ، فقد استقبلت زوارا اسرائيليين علنا ، واجرت معهم محادثات رسمية . وتتسم علاقاتها بمنظمة التحرير الفلسطينية بالمحدودية ، ولكنها في نفس الوقت تعلن التزامها بالمبادرة العربية للسلام .
حركة بلا بركة ! :
مالذي حققه بومبيو في جولته ؟
وما مدى واقعية التصريحات الاستباقية التي صدرت عنه وعن الاسرائيليين تبشر بعزم دول عربية الاعتراف بالعدو والاقتداء بالامارات ؟؟
الواقع أن الوزير لم يحقق شيئا يعطي مضمونا عمليا للتصريحات المتفائلة التي صدرت عنه ، وعن أصدقائه الاسرائيليين ، وبدت تصريحاتهم مضخمة ، وأشبه بدعاية تسويقية ، لسلعة كاسدة ، سبق أن رفضها العرب . وتؤكد العواصم العربية التي زارها بومبيو رفضها لمحاولته دفع دول أخرى لتحذو حذو الامارات . وفيما يلي الشواهد :
1 – في المحطة الاولى اسرائيل ، سعى بومبيو لزيارة رام الله واجراء محادثات مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس حول عملية السلام كما حددت شروطها وأطرها ادارة ترامب (تحسين الظروف الاقتصادية والمعيشية للفلسطينيين) ، ولكن القيادة الفلسطينية رفضت استقبال بومبيو .
2 – في الخرطوم تلقى بومبيو موقفا رسميا يرفض الاعتراف باسرائيل ، وتوسيع التطبيع أكثر من فتح المجال الجوي للطيران الاسرائيلي .
3 – في المنامة أبلغ ملك البحرين ضيفه التزامه بمبادرة السلام العربية .
4 – تكرر الموقف في سلطنة عُمان ، إذ رفض السلطان الجديد أن يبدأ عهده بخطوة كبيرة بهذا الحجم .
5 – جاءت هذه المواقف متأثرة بتصريح سعودي على لسان وزير الخارجية فيصل بن فرحان قال فيه (إن المملكة ملتزمة بمبادرة السلام العربية 2002 ، ونرحب بأي خطوة من شأنها وقف المخططات الإسرائيلية ضد الأراضي الفلسطينية .)
وعبر الامير تركي الفيصل رئيس المخابرات السابق وسفير الرياض في واشنطن عن نفس الموقف بعبارة أخرى (فقط عندما تعترف اسرائيل بحقوق الشعب الفلسطيني وتسمح بقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية سنقوم بالاعتراف بإسرائيل) . هكذا جددت السعودية تمسكها بمبادرة السلام العربية التي ترتبط باسمها. وقال محللون إن موقف الرياض كان له تأثير مباشر على مواقف البحرين وعمان، وعلى السودان.
6 – كان لافتا للانتباه صدور موقف صارم ضد الاعتراف والتطبيع مع العدو . إذ صدر بيان عن رئيس الحكومة سعد الدين العثماني يرفض أي تراجع عن الموقف العربي تجاه العدو . وجاء في البيان الذي تزامن مع جولة بومبيو ( إن المغرب ملكا وحكومة وشعبا يرفض الاعتراف باسرائيل والتطبيع معها قبل أن يسترد الشعب الفلسطيني حقوقه وتقوم دولته المستقلة وعاصمتها القدس ) . ويذكر هذا الموقف بموقف سابق إذ رفض الملك محمد السادس اواخر العام الماضي استقبال بومبيو لأنه يريد أن يعرض عليه أن تعترف اسرائيل بسيادة المغرب على صحرائه مقابل اعتراف المغرب بصفقة القرن وضم أجزاء من الضفة الغربية لاسرائيل .
7 – رأى محللون أن رد الفعل المصري على خطوة الامارات لم يكن مرحبا ولا مشجعا ، بل كان يتسم بعدم الارتياح .
8 – أشارت مصادر كثيرة عربية وغربية أن بومبيو يحمل مبادرة لعقد قمة أميركية – اسرائيلية – عربية تبحث دفع عملية السلام بين العرب واسرائيل ، تشارك فيها مصر والاردن والمغرب والامارات والبحرين . إلا أن الفكرة لم تلق قبولا من قادة هذه الدول حتى الآن .
هذه المواقف والشواهد أعادت تصليب وتثبيت الموقف العربي الموحد مما يسمى ( السلام ) مع اسرائيل ، من ناحية أولى ، ومن ناحية ثانية أعادت توصيف الخطوة الاماراتية خروجا على الاجماع العربي في مواجهة اسرائيل . فالتسويق والترويج الذي مارسه الاميركيون والاسرائيليون منذ قرار الامارات الاعتراف باسرائيل والتطبيع الاقتصادي معه لم يقنع أولي الأمر . مما دفع المحلل في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية هيو لوفات للقول إنه ( بعد أن قضى مسؤولون أميركيون وإسرائيليون أياما في المبالغة في احتمال أن تحذو دول عربية اخرى حذو الإمارات في تطبيع العلاقات مع إسرائيل ، يبدو أن عدم وجود التزامات علنية خلال جولة بومبيو الإقليمية أمرا مخيبا تماما ) .
ورغم التصريحات الأميركية المتفائلة، فإن التقارب مع الدولة العبرية أثار انتقادات من بعض الدول العربية . وقالت المحللة المختصة في شؤون الخليج في ” مجموعة الأزمات الدولية ” إلهام فخرو لوكالة فرانس برس إن (سياسة البحرين الخارجية تتماشى بشكل وثيق مع السعودية . وعندما أكدت السعودية التزامها بمبادرة السلام العربية الأسبوع الماضي ، أصبح من الواضح أن البحرين ستتبع موقف جارتها الأكبر) .
محاولات جديدة :
إذن عاد بومبيو الى واشنطن بخفي حنين ، خالي الوفاض ، ولكن هذه النتيجة لن تثني الأميركيين والاسرائيليين عن مواصلة ضغوطهم واستغلال ظروف العرب لاجبار بعضهم على الرضوخ لشروطهم ، خاصة في هذه المرحلة المتبقية من ولاية ترامب قبل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم . فترامب وفريقه سيكررون المحاولات لانتزاع بعض التنازلات من العرب دعما لحملة ترامب الانتخابية ، والاعيب نتنياهو للتخلص من خصومه , ومن ملاحقة الشرطة والقضاء له ، وسعيه لاجراء انتخابات جديدة ، يفوز فيها فوزا كاسحا يعيده الى رئاسة الحكومة وينجيه من الذهاب الى السجن محكوما بالفساد .
الدليل على ما نقول أن ادارة ترامب سترسل وفدا كبيرا ورفيع المستوى الأسبوع المقبل الى المنطقة للتشجيع على التطبيع ، يرأسه صهر الرئيس جاريد كوشنر، ومستشاره لشؤون الامن القومي وعدد آخر من المسؤولين الدبلوماسيين والخبراء ، وسيزور الوفد السعودية والبحرين وعمان .
وكشف موقع “أكسيوس” الامريكي أن المسؤولين يعتقدون أنه من الممكن للبحرين وسلطنة عمان اتخاذ خطوات تشبه خطوة الامارات في الأسابيع والأشهر المقبلة . وقال إن ترامب يرغب بإقامة حفل توقيع في حديقة الورود في سبتمبر للاتفاق الإسرائيلي الإماراتي مع قادة كلا البلدين .
وأضاف : إنه حتى إذا لم تعلن دول الخليج الأخرى التطبيع مع إسرائيل ، فقد يدعو البيت الأبيض ممثلين من دول عربية أخرى ، لحضور الحفل وإظهار دعمهم للاتفاق. لدعم عملية التسويق والترويج !
المصدر: المدار نت