لنا الحرية ولك قفصٌ من ذهب

فاطمة عبود

لأكثر من عقدين جلس بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا بصورة غير شرعية، حاكماً الشعب بقبضة أمنية محاطة بالرعب والخوف، وهذا أمر غير مستغرب على الإطلاق، فقد ورث الابن عن والده نظاماً قائماً على المخابرات، فما كان منه إلا أن عمَّقه ووسَّعه، حتى صار السوري لا يتحرَّك خطوة في حياته اليومية من دون أن يشعر بأنَّ عيون الأجهزة تراقبه.

وعندما قامت الثورة مارس الأسد سياسة الحصار بوصفها أداة حرب ضدَّ شعبه، فعاشت مدن كاملة تحت حصار خانق، من دون غذاء ودواء وكهرباء وماء، كان المدنيون يتركون للجوع والمرض حتى يرغموا على الاستسلام والخضوع، في حين قوات الأسد تقصف المشافي والمدارس والبيوت المأهولة من دون رحمة أو شفقة، لم تفرِّق البراميل المتفجرة التي أسقطتها مروحياته على الأحياء السكنية بين طفل وامرأة ومقاتل. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فالهجمات بالأسلحة الكيماوية ضدَّ المدنيين كشفت عن استعداد نظامه لارتكاب أبشع الجرائم في سبيل البقاء، غير آبهٍ بالمواثيق الدولية ولا بأرواح الأبرياء، ناهيك عن السجون التي امتلأت بالمعتقلين الذين تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب الذي مارسته أجهزته الأمنية بحق مئات الآلاف من السوريين.

سقط النظام فجأة، وأصبح الأسد لاجئاً في موسكو بعد هروبه المخزي من سوريا، وغدا صفحة مطوية في كتاب الاستبداد الحافل بجرائمه، هو اليوم يراقب من بعيد شعباً تحرَّر من سلطته الغاشمة، وبدأ يعيد بناء حياته، ويفكِّر في شكل مستقبله، بعد أن كاد اليأس يقضي عليه. المشهد الآن معكوس تماماً، فالسوريون الذين عاشوا سنوات طويلة بلا حرية ينعمون اليوم بقدرة على الكلام والتنظيم والعمل السياسي والاجتماعي، أمَّا الأسد فيعيش أسيراً داخل قصر محروس في موسكو، ويقضي ما تبقى من حياته في قفص يلمع بالترف والبذخ والمال، لكنَّه يخفي عزلة خانقة لا يمكن التحرُّر منها.

لقد وجد السوريون، الذين خرجوا في شوارع سوريا كلها يهتفون بالحرية، أنفسهم بعد سقوط النظام أمام حقيقة جديدة، حقيقة تقول: لا سلطة قمعية تتحكَّم بهم بعد اليوم، ولا مجال للعودة إلى الخلف؛ لأنَّهم دفعوا أرواحهم وأبناءهم وأموالهم ثمن الحرية التي يتنسمون هواءها، فبعد أن انهارت قبضة الأجهزة الأمنية التي حكمت البلاد بالحديد والنار، بدأت ملامح حياة سياسية تتشكَّل، رغم كلِّ الصعوبات التي تواجه سوريا اليوم، أمَّا الأسد فقد انتهى إلى عزلة لامعة، فموسكو التي استقبلته لم تفعل ذلك حباً به، ولا وفاء لأنَّه كان حليفاً لها في يوم من الأيام، موسكو لا ترى في الأسد سوى ورقة سياسية قابلة للحرق، ورصيداً بنكياً مصيره النفاد. لذلك فهي تضعه تحت رقابة دائمة وصارمة، يتجوَّل مع مرافقة أمنية مكثَّفة، ويلتقي من يُسمح له بلقائهم، ويتابع من بعيد الأخبار التي تقول له: إنَّ سوريا تجاوزت الرجل الذي اعتاد أن تُرفع صوره في كلِّ شارع، ولن تعود أبداً رهينة للتقديس الأعمى، إنَّ سوريا حطَّمت التمثال الذي كُرِّس للأبدية، فلا خلود بعد اليوم على كرسي الحكم.

عندما فرَّ بشار من سوريا لم يحمل معه إلى منفاه أموال السوريين المنهوبة فحسب، بل حمل معه أيضاً سجلاً فيه عشرات التقارير الأممية التي وثَّقت استخدامه السلاح الكيماوي ضدَّ المدنيين، وتقارير تثبت ممارسات التعذيب بحقِّ المسجونين، وتهم بالإخفاء القسري قام بها جهازه الأمني بتوجهات مباشرة من نظامه، فصور قيصر التي كشفت جثث آلاف المعتقلين التي مثَّل النظام بها ما زالت تتصدَّر الشاشات، بوصفها دليل إدانة لا يمكن محوه. هذه الملفات والتُّهم لا تسقط بخروجه من الحكم هارباً ذليلاً، بل تلاحقه حيث يختبئ في موسكو، وتحوِّله من رئيس سابق إلى متهم ينتظر لحظة المحاسبة، إنَّ انتظاره داخل قصره المحمي بكلِّ الوسائل والأجهزة التقنية الحديثة سيطول ويطول حتى يتحوَّل الزمن إلى أداة تعذيب بطيء تفتك به.

صحيح أنَّ السوريين استعادوا سوريا منهكة من سنوات الحرب، اقتصادها منهار، والفساد متفشٍ بها، والدمار أصاب المدن والقرى، لكنَّهم تحرَّروا، في الوقت نفسه، من الخوف الذي تعشش في نفوسهم، وأصبحوا يتحدَّثون عن العدالة ويطالبون بها، وصاروا يدركون إدراكاً تاماً بأنَّ إعادة بناء وطن مدمَّر أهون بكثير من العيش مجدَّداً تحت سلطة الاستبداد التي سلبتهم حياتهم وكرامتهم.

أمَّا السوريون الذين يعيشون في المنفى فقد صار بوسعهم أن يعودوا إلى ديارهم التي أُخرجوا منها قسراً، وأن يزوروا وطنهم متى شاؤوا من دون خوف من اعتقال أو ابتزاز أو إذلال على الحواجز، في حين حُرم الأسد وعائلته أن يشتمُّوا رائحة تراب سوريا ولو مرة واحدة في حياتهم، بعد أن ظنوا أنَّ سوريا مزرعتهم الخاصة. السوري الذي عاش سنوات طويلة مطارداً في الغربة صار يدخل وطنه من أبوابه الواسعة مرفوع الرأس موفور الكرامة؛ لأنَّه يشعر أنَّ الأرض التي سلبت منه باتت ملكاً لأصحابها الشرعيين.

السوريون اليوم، على الرغم من جراحاتهم التي يحملونها، أحرار أكثر من أيِّ وقت مضى، يختلفون ويتجادلون، ينتمون إلى تيارات متعدِّدة، لكنَّهم يشتركون في قناعة لا مجال للتفكير فيها، وهي أنَّ زمن الطغيان انتهى إلى غير رجعة، وأنَّ التاريخ لن يذكر الأسد إلا كدكتاتور انتهى مطروداً من أرض سوريا. سيكتب السوريون صفحة تاريخهم بأنفسهم، عنوانها الحرية، هذه الصرخة المدوية التي هزمت نظام الأسد ودحرته، وأعادت للشعب كرامته وعزته.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى