بقِّي البحصة يا “قسد”!

سمير صالحة

فنظر الراهب إلى شماسه بهدوء وحزم، وقال: “بقّ البحصة يا أنطون!”. فمن الذي نظر اليوم باتجاه قيادات “قسد” مثل صالح مسلم، ومظلوم عبدي، وإلهام أحمد، ودعاهم إلى “بقّ البحصة” التي طال احتباسها تحت اللسان لسنوات؟

حكاية “بقّ البحصة” معروفة في الأوساط اللبنانية، وتجد ما يماثلها في الأدب التركي عبر المثل القائل: “إخراج حبة الفول من تحت اللسان”.

إنها قصة الراهب الذي علّم شماسه الصمت بوضع حصاة تحت لسانه، فلا يتكلم إلا بإذن وباحترام وأدب، حتى جاءت تلك اللحظة الوحيدة التي أشار له فيها بالكلام كما يشاء، حين أغضبته سيدة عجوز ولم يستطع إيقافها.

اليوم، وبعد سنوات من التريّث وانتظار اللحظة المناسبة لإغضاب أنقرة ودمشق، تبقّ قيادات “قسد” “البحصة الأميركية” دون لفٍّ ودوران.

المطالب باتت دستورية، ترتبط بالهوية القومية، والفيدرالية أصبحت حلاً معلنًا لا تلميحًا: لا اندماج قسري، لا سلطة فوق سلطة المجتمعات المحلية، لا أمن مركزي يفرض نفسه على كانتونات الإدارة الذاتية، بل حديث صريح عن “نموذج عقد اجتماعي جديد“.

تستمد “قسد” شجاعتها من تبدّل الموقف الأميركي، الذي عبّر عنه مبعوث الرئيس ترامب للشرق الأوسط، توم باراك، حين أشار إلى تمسّك بلاده بالشراكة المعلنة معها تحت ذريعة محاربة داعش، وطرحه لمشروع شبيه بالفدرالية أو اللامركزية في سوريا. كما أن دخول اللاعب الإسرائيلي، سياسيًا وعسكريًا، بشكل مباشر على خط الأزمة السورية، مستفيدًا من تطورات الأحداث في السويداء وشعارات الانفصال عن الدولة المركزية، منح “قسد” ما تعتبره فرصة لا تُعوَّض للتنصّل من تفاهمات العاشر من آذار مع القيادة السياسية في دمشق.

من “بقّ البحصة” إلى إعادة إحياء الحديث القديم–الجديد عن مطلب الفيدرالية. هكذا أطلقت قيادات “قسد” العنان لنفسها، وأخرجت ما ظلّ مكتومًا تحت اللسان لأعوام.

هذا الإفصاح المتأخر ليس مجرد موقف، بل إعلان واضح عن نهاية تفاهمات آذار 2025 مع القيادة السياسية الجديدة في دمشق، رغم أن اللحظة كانت قد بدت – لبعض المتفائلين – كأنها نقطة انعطاف نحو الاندماج والتعايش السلمي. لكن الوقائع تكشف اليوم عن مسارين متباعدين، إن لم يكونا متناقضين، في مقاربة مستقبل سوريا: بين مشروع مركزي تستعيد فيه الدولة سلطتها، ومشروع لا مركزي يتوسّع تدريجيًا نحو الفيدرالية السياسية والإدارية.

مظلوم عبدي، أولًا بعد توقيع التفاهم مع أحمد الشرع: “نحن لا نطالب بالانفصال، بل نريد أن نكون جزءًا من وزارة الدفاع السورية في إطار لا مركزي يحفظ الخصوصية”. بعد شهر تقريبًا، انتقل للحديث عن الحقوق القومية: “سوريا ليست عربية فقط.. نطالب بدستور يقرّ بوجود شعب كردي موحّد وله حقوق واضحة”. بعد شهرين، ترتفع حدّة خطابه السياسي: “لن نقبل بالعودة إلى المركزية القديمة.. مشروعنا في شرق الفرات أصبح أكثر وضوحًا، وواشنطن ما زالت شريكًا استراتيجيًا”.

أما صالح مسلم، فيقول بعد توقيع تفاهم آذار: “ما تم التفاهم عليه مع دمشق هو بداية لحوار جاد، ونحن منفتحون على بناء دولة لكل السوريين”. لكنه يعود ليعلن بعد أسابيع: “لا يمكننا القبول بدولة لا تعترف بتنوعها.. مشروع الإدارة الذاتية أثبت قدرته على الصمود والتوسع”. وفي ذروة التصعيد، يجاهر بأن “كل محاولات حصارنا أو فرض شروط علينا مصيرها الفشل.. الشراكة مع واشنطن مستمرة، ولن نعود إلى الوراء”.

إلهام أحمد من ناحيتها، وفي بداية الحوار مع دمشق: “نحن مع وحدة سوريا، لكن على أساس الاعتراف الدستوري بالإدارة الذاتية وحقوق مكوّنات المنطقة”. لتواصل بعد أسابيع: “لا يمكن لأي تسوية أن تُبقينا خارج القرار.. نحن نمثّل مشروعًا ديمقراطيًا لشمال وشرق سوريا”. ولتعلن قبل أيام في طريق العودة من دمشق: “الوحدة لا تعني الإلغاء.. نرفض العودة إلى الدولة المركزية، ونطرح نموذجًا لا مركزيًا يضمن العدالة والتمثيل الحقيقي”.

كل هذه التصريحات والمواقف لا تعكس مجرد تحوّل في الخطاب، بل ترتبط أيضًا بحسابات “قسد” لما شهدته الساحة السورية خلال الأسابيع الأخيرة من تحوّلات ميدانية بدت وكأنها تمنحها فرصة جديدة للرهان على تبدّل ميزان القوى الإقليمي والدولي.

تحاول قيادات “قسد”، منذ توقيع تفاهمات آذار، تدوير الزوايا. منحتها المتغيّرات الميدانية والإقليمية، إلى جانب التفاهم مع دمشق قبل خمسة أشهر، فرصة جديدة للحديث عن لا مركزية ضمن مؤسسات الدولة، وطرحت نفسها كمفاوض منفتح لا يتطلع إلى الانفصال، بل إلى الشراكة. لكن سرعان ما بدأ الخطاب يتبدّل: فالمطالب باتت دستورية، ترتبط بالهوية القومية، والفيدرالية أصبحت حلاً معلنًا لا تلميحًا: لا اندماج قسري، لا سلطة فوق سلطة المجتمعات المحلية، لا أمن مركزي يفرض نفسه على كانتونات الإدارة الذاتية، بل حديث صريح عن “نموذج عقد اجتماعي جديد”.

تردد قيادات “قسد” في العلن أنها تسير على خط متوازن بين الحرص على الحفاظ على مكتسباتها السياسية والعسكرية، والرغبة في إيجاد حلول تفاوضية مع دمشق عبر إطار تفاهمات آذار، مع إبراز أهمية استمرار الحوار البنّاء لتحقيق الاستقرار والسلام في شمال شرقي سوريا.

فهل لا تزال دمشق ترى في “قسد” طرفًا للحوار؟ أم أنها أخطأت أصلاً في فتح هذا الباب؟ وهل أصبح القطع مع تفاهمات آذار أمرًا واقعًا لا يحتاج إلا إلى بيان رسمي؟ أم أن الرهان بالنسبة لـ”قسد” هو على مزيد من التحولات السياسية والميدانية التي تعيق أي سيناريو تصعيد عسكري مشترك تقوده دمشق وأنقرة؟

الإجابة على هذه الأسئلة لا تتوقف فقط على موقف “قسد”، بل على شكل التفاهمات الإقليمية المقبلة، وتوازنات المصالح بين اللاعبين الأساسيين: واشنطن، أنقرة، دمشق، تل أبيب، إضافة إلى العواصم المؤثرة في الخليج وموسكو.

فتحت التصريحات الأميركية، السياسية والعسكرية، الباب أمام “الشريك الكردي الموثوق” للمزيد من المناورة، بل والتحرر إلى حد كبير من ضغط دمشق، خاصة بعد أن بدا أن تفاهمات آذار لم تعد مُلزمة لـ”قسد”. فواشنطن، التي آثرت سياسة الغموض لفترة طويلة، عادت مؤخرًا بقوة إلى دعم “قسد”، تحت ذرائع مواجهة داعش، وتحقيق التوازن مع تركيا وإيران، مستفيدة أيضًا من دخول اللاعب الإسرائيلي – سياسيًا وعسكريًا – على خط الأزمة السورية.

بالمقابل، لم تُغيّر أنقرة مواقفها. فهي تواصل ضغوطها السياسية بانتظار نتائج محادثات دمشق مع قيادات شرق الفرات وحسم اللاعب الأميركي موقفه. لكن ما يقلقها اليوم هو تصريحات قيادات “قسد” التي اختارت رفع سقف التوتر مع دمشق وأنقرة على السواء، والتشبّث بالدعم الأميركي، وتقديم مشروعها كـ”معادل استراتيجي” للتوازنات في وجه دمشق وأنقرة.

إسرائيل من جانبها بدأت التدخل المباشر بعكس ما كانت تفعله قبل سنوات مع نظام الأسد. هي تدعم اليوم الكيانات غير المركزية في رسالة إقليمية واضحة، نحو تبنّي صيغ الشرذمة والتفتيت في سوريا، مستفيدة من تراجع النفوذ الإيراني، وضعف الثقل الروسي، وتفكك الداخل السوري، وعدم حسم أنقرة لموقفها بسبب السياسات الأميركية.

أما دمشق، التي تسعى لاستعادة سيطرتها على كامل التراب السوري، وترى في استمرار وجود “قسد” وإدارتها الذاتية تحديًا مباشرًا لتماسك عناصر الدولة، وهو مخالف لروح اتفاقيات آذار، فهي أمام خيارات صعبة ومكلفة أيضًا. فقيادات “قسد” ترفض التنازل عن مكاسبها العسكرية والجغرافية والاقتصادية، وتريد تحويلها إلى مكاسب سياسية ودستورية، حتى ولو كان الثمن هو المواجهة العسكرية المباشرة مع دمشق وأنقرة.

تردد قيادات “قسد” في العلن أنها تسير على خط متوازن بين الحرص على الحفاظ على مكتسباتها السياسية والعسكرية، والرغبة في إيجاد حلول تفاوضية مع دمشق عبر إطار تفاهمات آذار، مع إبراز أهمية استمرار الحوار البنّاء لتحقيق الاستقرار والسلام في شمال شرقي سوريا. لكن الواقع والممارسات على الأرض يقولان إن خيارات “قسد” تتمحور بين السعي للحفاظ على مكتسباتها من جهة، ومحاولة التفاوض والاندماج ضمن الإطار السياسي الدستوري الذي تريده من جهة أخرى. المواجهة العسكرية ليست الخيار الأسهل، لكنها تبقى احتمالًا قائمًا في حال تفاقمت التهديدات الخارجية أو استُنفدت كل الخيارات السياسية بالنسبة لـ”قسد” أيضًا.

“بقّ البحصة” لم يكن مجرد اعتراف، بل إعلان نية لمشروع يبتعد عن دمشق أكثر فأكثر. والسؤال اليوم: هل تملك الأطراف ترف الصمت مجددًا، أم أن لحظة المواجهة باتت أقرب من أي وقت مضى؟

في عام 63 قبل الميلاد، طلب ملك أرمينيا “تيغران الكبير” نصرة روما ضد خصومه، فلما اكتشف أن الدعم الروماني جاء بثمن السيادة، قال قولته الشهيرة:
“طلبتُ حماية فأرسلت لي روما حبلًا من حرير.. لأُشنق به!”.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى