
لم يعد خافياً على أحد أنّ التصريحات التي يطلقها حكمت الهجري، الذي نصب نفسه رئيساً روحياً لطائفة الموحّدين الدروز في السويداء مبتدعاً منصباً لم يعترف به التاريخ ولا الإجماع الدرزي،” رغم وجود شيخَي العقل الشرعيين حمود الحناوي ويوسف الجربوع”، تسير في مسار انتحاريّ لا يخدم أبناء الطائفة ولا مستقبلهم في سوريا، بل تفتح أبواب العداء مع الأكثريّة الوطنيّة على مصاريعها. فما معنى أن يتوجّه الرجل بالشكر لواشنطن وتل أبيب وبعض المكوّنات المحليّة كالعلويّين والأكراد، بينما يتجاهل عمدًا المكوّن السنّي الذي يشكّل العمود الفقريّ للأمّة في سوريا وفي الوطن العربي من الأحواز إلى موريتانيا؟ إنّ هذا التجاهل ليس مجرّد هفوة، بل رسالة واضحة تحمل في طيّاتها اتهاماً للسنّة جميعًا بمسؤوليّة ما جرى، في وقتٍ أقرت فيه الدولة السوريّة نفسها بوقوع بعض التجاوزات، وأثنت على التقارير الأمميّة التي وثّقت تلك الأحداث بموضوعيّة وحياد
أوّلًا: السنّة ليسوا أقليّة
من يقرأ في صفحات التاريخ والجغرافيا والسياسة يدرك أنّ السنّة في سوريا وفي الوطن العربي من الأحواز إلى موريتانيا ليسوا «مكوّناً» صغيراً يمكن تجاوزه أو استعداؤه، بل هم الأمّة والرّافعة والركيزة التي دارت حولها التوازنات السياسيّة والاجتماعيّة قروناً. إنّ أيّ محاولة لتهميش هذا الواقع أو استفزازه إنّما تعني استدعاء مواجهة خاسرة لا طاقة لطائفةٍ صغيرةٍ محدودةِ العدد والانتشار على تحمّلها. والأخطر أنّ هذا النهج يصطدم بجوهر مبدأ المواطنة الذي يُفترض أن يكون قاعدةً مشتركةً لكلّ السوريّين، حيث تقوم الدولة على المساواة والانتماء الوطنيّ الجامع، لا على خطاب التمييز والإقصاء.
ولعلّ الزعيم الدرزي وليد جنبلاط عبّر بوضوح عن هذه الحقيقة حين قال: «لا يمكن لطائفةٍ صغيرةٍ أن تعيش خارج إطار الدولة الوطنيّة الجامعة، والارتهان للخارج وصفةٌ للانتحار». كلماتٌ تختصر درساً على حكمت الهجري أن يتعلّمه قبل أن يقود طائفته إلى عزلةٍ مدمّرة.
ثانيًا: ثمن مقعد الهجري
يعلم الجميع أنّ وصول حكمت الهجري إلى موقعه الحاليّ لم يكن بلا أثمان، وأنّ دماء شقيقه الأكبر، الشيخ أحمد الهجري، ما تزال شاهدةً على الغموض الذي اكتنف رحيله. فقد قيل إنّه قضى إثر حادث سير «بسيط»، بينما شُوهد بعد ساعات يتمشّى في ممرّات المستشفى مبتسماً وهو يتحدّث عبر الهاتف المحمول، قبل أن يختفي فجأةً إلى الأبد في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2012. هذا المشهد الملتبس لا يزال عالقاً في ذاكرة الناس، وهو يفتح الباب واسعاً أمام الأسئلة حول شرعيّة المقعد الذي يجلس عليه حكمت، وحول مَن دفع الثمن، ومَن كان وراء إزاحة الشيخ أحمد الهجري رحمه الله لتغيير مسار الزعامة الروحيّة للدروز.
ثالثًا: وهم «تقرير المصير»
ليس جديداً أن يُلوّح حكمت الهجري بين الحين والآخر بمطلب «تقرير المصير» و«الانفصال»، مستنداً إلى وعودٍ إسرائيليّة، وربّما أمريكيّة أو حتى بعض المنظّمات الأمميّة. غير أنّ هذا الطرح لا يعدو كونه وهماً، فالتاريخ والسياسة يثبتان أنّ الدول لا تُقسَّم ببيانات الشيوخ الطارئين ولا بنزوات القيادات العابرة، بل وفق مصالح القوى الكبرى وميزان القوى الدوليّ، وما تملكه الدولة الأمّ من أوراقِ قوّة.
وسوريا، رغم ما أصابها من أزمات، ليست دولةً بلا أوراق، فهي تملك قدرةً على المناورة والتحالف، بدءًا من عمقها الإقليميّ مع العرب وتركيا، مرورًا بعلاقتها مع حزب الله وإيران، وصولًا إلى شراكاتٍ استراتيجيّةٍ مع روسيا والصين وحتى كوريا الشماليّة. يُضاف إلى ذلك موقعها الجيوسياسيّ الفريد الذي يجعلها حلقة وصلٍ برّيّةً بين أوروبا وآسيا وإفريقيا، وما تختزنه من إمكاناتٍ اقتصاديّةٍ تجعلها رقماً صعباً في معادلات المنطقة.
إنّ هذه الحقائق يعرفها أيضاً الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي حذّر مرارًا من مغبّة التورّط في مشاريع تقسيميّة، مؤكداً: «أنتم لا تعيشون في جزيرةٍ معزولة، بل في قلب العروبة والإسلام، وأيّ محاولةٍ للانفصال لن تجد لها سنداً إلّا في أعداء الأمّة». فهل يسمع حكمت الهجري هذا التحذير، أم يصرّ على المضيّ في طريق الوهم؟
رابعًا: الدروس اللبنانيّة
لا يمكن الحديث عن الدروز في سوريا بمعزلٍ عن التجربة اللبنانيّة، حيث شكّل الزعيم الدرزي الكبير الشهيد كمال جنبلاط—مؤسّس الحزب التقدّميّ الاشتراكي—رمزًا للانخراط في قضايا الأمّة. رفع شعاره الشهير: «الطائفيّة قبرٌ للوطن»، مؤكّدًا أنّ لا مستقبل للبنان خارج عمقه العربيّ. اغتياله رحمه الله عام 1977 لم يُنهِ هذا الخطّ، بل دفع بولده وليد بيك إلى إدراك الحقيقة الأعمق: أنّ الطائفة، مهما كان وزنها، لا تستطيع أن تعيش إلّا في ظلّ دولةٍ جامعةٍ ومحيطٍ عربيّ.
ولهذا ظلّ وليد جنبلاط يردّد: «نحن عربٌ قبل أن نكون موحّدين، والانتحار أن نعيش في عزلة». هذه التجربة اللبنانيّة تقدّم درسًا قاسيًا لحكمت الهجري: الزعامة ليست خطابةً ولا مكابرة، بل قراءةٌ دقيقةٌ لمعادلات القوّة وموازين المصالح، وأيّ تجاهلٍ لهذه الحقائق يجرّ الطائفة إلى الكارثة.
خامسًا: الأقليّات والعِبرة المشتركة
ليست الطائفة الدرزيّة وحدها التي تواجه سؤال البقاء في إطار الدولة الوطنيّة أو الانجراف وراء أوهام الكيانات الخاصّة. تاريخ الوطن العربيّ حافلٌ بتجارب أقليّاتٍ وقعت في فخّ الارتهان للخارج، فدفعت ثمنًا باهظًا.
فالأرمن الذين نزحوا إلى سوريا في أعقاب حروبهم مع العثمانيين عام 1916 وجدوا في حلب والحسكة وغيرهما ملاذًا آمنًا مكّنهم من إعادة بناء حياتهم، لكنّنا قد نرى بعض أبنائهم لاحقًا يتنطّعون للمطالبة بجمهوريّة «أرمينستان الديمقراطيّة». كذلك عاش الأكراد في تداخلٍ اجتماعيّ وثقافيّ مع الشعب السوريّ، لكنّ بعض القوى منهم ما لبثت أن استدرجها الدعم الأمريكيّ فوجدت نفسها في عزلة، بعدما اكتشفت أنّ القوى الكبرى لا تمنح «دولًا»، بل تستعمل الورقة ثم تحرقها.
وإذا عدنا إلى تجربة الموارنة في لبنان، فإنّهم حين ربطوا وجودهم بالمشروع الغربي—الفرنسي تحديدًا—دخلوا في حروبٍ أهليّةٍ طاحنة، ولم ينجُ إلّا بالعودة إلى معادلة العيش المشترك والتوافق الوطنيّ. وهنا نستحضر كلمات كمال جنبلاط حين قال: «لا خلاص لفئةٍ دون الأخرى؛ فإمّا أن ننهض معًا أو نسقط معًا». هذه الحقيقة تتكرّر في كلّ مكان، وعلى حكمت الهجري أن يعيها قبل أن يغامر بطرح مشاريع انفصاليّة.
سادسًا: تحالفات الوهم وحدودها
من يراقب خطابات حكمت الهجري يدرك أنّه يراهن على تحالفاتٍ وهميّةٍ يظنّ أنّها قادرةٌ على منحه سندًا في مشروع الانفصال أو «تقرير المصير». فهو يتحدّث تارةً عن دعمٍ أمريكيّ، وأخرى عن «تفهّمٍ إسرائيليّ»، وثالثةً عن منظّماتٍ دوليّةٍ يمكن أن تضغط لصالحه. غير أنّ هذه المراهنات ليست سوى سرابٍ سياسيّ؛ فقد أثبتت التجارب أنّها لا تمنح الأقليّات سوى وهم القوّة، قبل أن تُلقي بهم إلى قعر العزلة.
فالولايات المتحدة نفسها التي أغرت بعض القوى الكرديّة في شمال سوريا بالوعود لن تتردّد في التخلّي عنهم في لحظةٍ مفصليّة، حين تقتضي مصالحها التفاهم مع تركيا. وإسرائيل التي يُكثر حكمت الهجري من إرسال رسائل الودّ إليها، لن ترى في الدروز إلّا ورقةً صغيرةً يمكن أن تُستعمل لابتزاز دمشق، ثمّ تُرمى متى استُهلكت. أمّا المنظّمات الأمميّة فتتحرّك—كما يعرف الجميع—وفق ميزان القوى الدوليّ، لا وفق رغبات مشايخ محلّيّين.
وقد قال وليد جنبلاط بوضوح: «مَن يراهن على الخارج ليحميه، يكتشف متأخّراً أنّه باع نفسه للعدم». عبارةٌ تختصر مصير كلّ مَن يستقوي بالغريب على محيطه.
دروس التاريخ المنسيّ والعِرفان بدل النكران
من المؤسف أن يتناسى حكمت الهجري أنّ الوجود الدرزيّ في جبل العرب لم يتجاوز القرن والنصف؛ إذ تؤكّد الوقائع التاريخيّة أنّ أجداده هاجروا من لبنان عام 1886 إثر صراعٍ مع الموارنة، فلجؤوا إلى سوريا حيث احتضنهم أهلها ومنحوهم من أرض السويداء مأوى مؤقّتًا ريثما تُحلّ مشكلتهم. فكيف يُكافأ هذا الاحتضان بعد أجيالٍ بالدعوة إلى سلخ الأرض عن وطنها الأمّ؟ وأيّ منطقٍ يقبل أن يتحوّل «الملجأ» إلى مشروع «دولة» أو «كيان» منفصل؟
واليوم يعيد حكمت الهجري المشهد ذاته، ناسياً أنّ مَن يُخرج نفسه من التاريخ الوطنيّ لن يُنظر إليه إلّا كورقةٍ عابرةٍ للاستعمال، لا كجزءٍ من نسيج الوطن الراسخ.
وهنا تبرز كلمات وليد جنبلاط لتؤكّد الدرس: «مَن ينسى فضل الأرض التي آوته وخبز الناس الذين احتضنوه لا يستحقّ أن يدّعي الزعامة؛ لأنّ الزعامة وفاءٌ قبل أن تكون سلطة».
الخاتمة
إنّ استعداء الأكثريّة السنّيّة، والارتماء في أحضان العواصم الأجنبيّة، والتلويح بمشاريع الانفصال، ليست سوى وصفاتٍ قاتلةٍ تجرّ الدروز إلى طريقٍ واحد: طريق الفناء السياسيّ والاجتماعيّ والتاريخيّ. فالطائفة التي صمدت قروناً بفضل توازنها مع محيطها العربيّ والإسلاميّ مهدّدةٌ اليوم بأن تخسر هذا التوازن على يد شيخٍ يغامر بمصيرها كلّه.
أيّها الطارئ على تراب السويداء السوريّة، إنّ التاريخ لا يُكتب بالبيانات الموجّهة ولا بكلمات الشكر للغريب، بل يُكتب بالدماء والتضحيات والعيش المشترك. والسنّة الذين تتجاهلهم ليسوا «مكوّنًا» يُنكر أو يُقفز فوقه، بل هم الأمّة التي إن خاصمتك خاصمتك إلى الأبد.
إنّ الزعامة الحقيقيّة ليست في فتح أبواب العداء ولا في استدعاء الأجنبيّ، بل في الحكمة التي تجمع وتوحّد. وقد أدرك كمال جنبلاط هذه الحقيقة حين قال: «المستقبل للعروبة، وللشعوب التي تتمسّك بأرضها وهويّتها». فهل يستوعب حكمت الهجري هذا الدرس قبل فوات الأوان، أم يصرّ على المضيّ في طريقٍ يقود الدروز إلى عزلةٍ لن تنتهي إلّا بالاندثار؟