المخاض السوري… الجماعات المنظّمة ضرورة حيوية

علي العبدالله

أثارت دعوة أحمد موفق زيدان، مستشار الشؤون الإعلامية للرئيس السوري، جماعة الإخوان المسلمين في سورية إلى حل نفسها (“متى ستحلّ جماعة الإخوان المسلمين في سورية نفسها؟، موقع الجزيرة نت: 22/8/2025)، أسئلة بشأن المغزى والتوقيت؛ بعضها مستغرب، لأن الجماعة تنتمي إلى الجذر الإسلامي الذي يجمعها مع السلطة الجديدة، ما يستدعي التعاون والتنسيق، لا القطيعة والعداء، وبعضها مرحب، لأن الجذر المشترك يثير قضية حساسة في مشهد الجماعات الإسلامية: الشرعية والتمثيل والتنافس على الحاضنة الشعبية ذاتها، السُنّة، حيث سيضع وجود الجماعة على المسرح السياسي السوري السُنّة أمام مهمّة تلقائية: المقارنة بين خيارات (وتوجهات) الطرفين واختيار الأقرب إلى مصالحها ومزاجها العام، وهو ما يثير قلق السلطة التي تعلم أن الجماعة أقرب إلى مصالح سُنّة المدن الكبرى ومزاجهم العام الذي يميل إلى المرونة والليونة لتحقيق الاستقرار، لأهميته لرواج الأعمال وتحقيق المصالح.

حاول زيدان تبرير دعوته باستعراض وقائع من تجارب الجماعة في دول عربية وإسلامية انطوت على انفصال عدد منها عن الجماعة الأم، باعتبارها قرائن تبرّر دعوة الجماعة في سورية إلى حل نفسها، من انفصال عبد الكريم الخطيب في المغرب، الذي أسّس عام 1967 حزبا إسلاميا جديدا تحت اسم العدالة والتنمية، وراشد الغنوشي في تونس الذي أسّس عام 1980 تشكيلا سياسيا إسلاميا جديدا تحت اسم حركة الاتجاه الإسلامي، يجمع بين النشاطين الدعوي والسياسي، تحوّل عام 1981 إلى حزب سياسي بخلفية إسلامية تحت اسم حركة النهضة، بعد رفض طلب منحه رخصة للعمل بشكل قانوني، إلى حسن الترابي في السودان الذي أسّس عام 1999حزباً إسلامياً جديداً تحت اسم المؤتمر الشعبي، ونجم الدين أربكان، الذي أسّس عام 1983 حزب الرفاه، ورجب طيب أردوغان، الذي أسس حزب العدالة والتنمية عام 2001، والذي أراد به، أي الاستعراض، الإيحاء بأن الانفصال عن الجماعة الأم مطروح داخل جماعات الإخوان المسلمين طريقاً للتحرّر من أعباء تاريخ الجماعة الثقيل وسرديتها الفاشلة وتطلعاتها غير العملية.

تريد السلطة السورية الجديدة أفراداً يلتحقون بها، لا جماعات منظّمة تشاركها العمل السياسي

تجاهل صاحب الدعوة المناخ السياسي العربي الذي دفع هذه التجارب إلى إعادة صياغة نفسها على خلفية التكيف مع المتغيرات، حيث كانت الجمهوريات العربية “التقدّمية” ضد الجماعة الأم وفروعها باعتبارها جماعة “رجعية”؛ لاحقتها وقمعتها، وكانت الأنظمة الملكية والأميرية معها على خلفية صراعها مع جمال عبد الناصر، قد احتضنت كوادرها ودعمتها مادّياً وعملياً. ومع تغيّر المناخ السياسي بوصول الرئيس المصري أنور السادات عام 1970 إلى سدّة الحكم في مصر ومصالحته مع الجماعة الأم انقلبت الأدوار، حيث باتت الأنظمة الملكية والأميرية تتوجّس من الجماعة على خلفية موقفها من الأنظمة الوراثية وتمسّكها بولاية الأمة على نفسها، واختيارها الإمام ومحاسبته وعزله في حال خرج على الشرع، أو بات عاجزاً عن تحقيق مصالح المسلمين، وارتفاع حدّة الضغط المباشر وغير المباشر على جماعات الإخوان المسلمين الفرعية، ما دفع قادتها إلى العمل على تحاشي الصدام مع حلفاء الأمس، بالانحناء للعاصفة عبر إجراء تعديلاتٍ في الاسم والنهج، مع بقاء الهدف العام إقامة نظام حكم إسلامي، لكن هذا لم يشفع لهم، حيث تواصلت الحملات الإعلامية ضد الأحزاب الإسلامية الجديدة، والضغط على الحكومات، لإقصائها من المسرح السياسي، وهو ما حصل لحزب المؤتمر الشعبي في السودان الذي وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري أخرج الحزب من المسرح السياسي السوداني بعد فترة قصيرة، ولحركة النهضة في تونس التي نجحت في الانتخابات البرلمانية، لكن نجاحها لم يدم، حيث لم يكتف انقلاب الرئيس التونسي قيس سعيّد على المسار الديمقراطي بإخراج الحركة من المسرح السياسي، بل عمل ايضاً على تفكيكها بسجن قادتها، أما نجاح حزب “العدالة والتنمية” المغربي فمرتبط بعوامل أخرى، إصلاحات ملك المغرب محمد السادس، التي جرت تحت وطأة مناخ الربيع العربي الساخن، وحزب “الرفاه” التركي، الذي فاز في الانتخابات البلدية عام 1994 والبرلمانية عام 1995 حظره القضاء بطلب من المؤسّسة العسكرية عام 1998 بذريعة انتهاك علمانية الدولة، وحزب العدالة والتنمية التركي تعرّض لمحاولة انقلاب عام 2016 انعكست سلباً على توجهات النظام الديمقراطية بذهابه نحو مركزة السلطة بيد الرئيس. وقد كانت محاولة زيدان تعزيز مطلبه بالاستشهاد بواقعة قبول الجماعة في سورية حلّ نفسها استجابة لشرط الرئيس المصري جمال عبد الناصر حل الأحزاب السياسية في سورية قبل قيام الوحدة السورية المصرية عام 1958 غير موفقة، لأن الجماعة لم تحل أيام الوحدة، كما قال، لأنها لم تعتبر حزباً سياسياً، بل جماعة دعوية. عدا عن أن استحضار هذا المثال يؤكّد هواجس ومخاوف قطاعات واسعة من السوريين لأنه اقترن بحل الأحزاب وإقامة نظام الحزب الواحد، حيث استبدل الاتحاد القومي بالأحزاب السياسية التي كانت قائمة إلى ذلك الحين.

كان وصف زيدان وضع الجماعة قيادة هرمة، وقريبة من حالة موت سريري، متمسّكة بقصور خيالية وهمية سرابية، أكثر نقاط مناورته ضعفاً، لأن هذا الوصف لا يستدعي الدعوة إلى الحل بقدر ما يستدعي ترك الجماعة في غيبوبتها والدعاء لها بحسن الختام. هذا قبل أن تبلغ طرافته منتهاها بعرض صفقة/ رشوة بقوله: “وقد تسبّب إصرارهم بالتمسّك بقرار عدم حل الجماعة في حرمان شبابهم من المشاركة في بناء الدولة”. كلام واضح عن الهدف من الدعوة إلى الحلّ: السلطة السورية الجديدة تريد أفراداً يلتحقون بها، لا جماعات منظّمة تشاركها العمل السياسي.

لا يشكّل حل الأحزاب ومنع عمل جماعات منظمة على المسرح السياسي السوري مدخلاً مناسباً لمواجهة الأزمات السياسية والمشكلات الخدمية والمعيشية

ربطت تعليقات كتّاب سوريين وعرب دعوة الجماعة إلى حل نفسها برغبة السلطة السورية الجديدة التماهي مع توجه عام في النظامين العربي والدولي، مصر والأردن ودول الخليج العربية حظرت الجماعة في دولها، عربياً، ودول أوروبية عديدة والولايات المتحدة تضيّق على نشاط الجماعة وتلوّح بتصنيفها جماعة إرهابية، دولياً. تفسير وجيه، لكنه لا يستغرق الحالة السورية الراهنة، حيث حلّت السلطة السورية الجديدة جميع الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بقرارات ما سمّي مؤتمر النصر، وعملت جاهدة على دفع قيادتي الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة والمجلس الإسلامي السوري إلى حل نفسيهما؛ ونجحت في ذلك، ورفضت السماح لحزب وعد، الذي شكلته جماعة الإخوان المسلمين في سورية من عدة أعوام، بالعمل في سورية، ولاحقت أي محاولةٍ لتشكيل أجسام أو تكتلات منظّمة في المسرح السياسي السوري، استدعت الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية شخصيات سورية على خلفية مشاركتها في تشكيل تحالف تماسك، ضم 35 كياناً سياسيّاً ومدنيّاً متنوعاً، وطالبتها بحله، وتم لها ذلك، حتى التشكيلات الصغيرة التي نشأت في بلدات، مثل التيار الليبرالي في بلدة مصياف التابعة لمحافظة حماة، لم تسلم من ملاحقتها وحلّها، فحلّ الأحزاب توجّه أساسي في تصوّرها، والسلطة للمسرح السياسي السوري الذي تسعى إلى تكريسه، مسرح الحزب الواحد. وهذا يفسّر إلى حد كبير الإبقاء على بند إصدار قانون أحزاب في الإعلان الدستوري حبيس الأدراج إلى حين استكمال عملية بسط سيطرتها على المجتمع، وتحويل “الأمانة العامة للإدارة السياسية”، التي شكلها وزير الخارجية أسعد الشيباني، في خطوة غير مفهومة كونها خارج مهمّات وزارة الخارجية، إلى حزب سياسي يحتكر المسرح السياسي، ويكون الحزب الوحيد في البلاد على طريقة حزب البعث في سورية والعراق والاتحاد الاشتراكي في مصر وحزب المؤتمر العام في اليمن، فنهج السلطة وهدفها في إقامة نظام شمولي واضح في كل خطواتها وقراراتها ومراسيمها الرئاسية، ما يستدعي حل كل الأحزاب ومنظّمات المجتمع المدني، وتحويل السوريين إلى أفراد كي يسهل استدراجهم واستقطابهم وإغراؤهم، ودفعهم إلى الإقرار للسلطة بامتلاك الحقيقة والصواب وعدم معارضتها أو منافستها عبر تشكيل أحزاب مستقلة والانصياع لقراراتها وتوجّهاتها السياسية والاقتصادية.

تجاهلت السلطة السورية الجديدة وضع جماعة الإخوان المسلمين، حيث العداء التاريخي بين التيار السلفي، الذي تمثله هيئة تحرير الشام، التي جاءت منها هذه السلطة، والجماعة، كي لا تثير لغطا حول شرعية تمثيل التوجه الإسلامي في سورية، كون الجماعة غريما في مجال الصراع على هذه الشرعية، حتى صدور بيان الجماعة إثر اجتماع مجلس شوراها في السابع من أغسطس/ آب الماضي، وما انطوى عليه من دلالات وما عكسه من تباينات مع توجهات السلطة السورية الجديدة وخياراتها حيث جاء في البيان “دعمها (الجماعة) لبناء دولة مدنية حديثة ذات مرجعية إسلامية، تقوم على المواطنة الكاملة والتعددية السياسية، وترفض الاستبداد والانقسام”، وتشديدها على “ضرورة الحفاظ على وحدة الأرض والشعب السوريين، ورفض أي حلول تؤدي إلى تقسيم البلاد أو إبقاء الوضع الراهن”. وإعلانها عن قرب إصدار ورقة توضح رؤيتها للعيش المشترك، وقد زادت تعليقات عضو المكتب السياسي في الجماعة سمير أبو اللبن حساسية الموقف حين غمز من قناة السلطة بقوله: “سورية لكل السوريين، ولن تكون سورية سليمة صحيحة إلا إذا كانت كل مكوناتها مصونة محمية”.

تجاهلت السلطة السورية وضع جماعة الإخوان المسلمين، حيث العداء التاريخي بين التيار السلفي الذي تمثله هيئة تحرير الشام، التي جاءت منها السلطة، والجماعة

تشكل جماعة الإخوان المسلمين تحدّياً كبيراً للسلطة السورية على خلفية قدرتها على منافستها على حاضنتها السُنّية، حيث لجماعة الإخوان المسلمين حضور تاريخي بين سُنّة المدن بشكل رئيس، ولديها فرصة لاستعادة مكانتها بينهم، بعدما بدأ تذمّرهم من سياسات السلطة الإدارية والاقتصادية وانعكاسها السلبي على مصالحهم المادّية، بما في ذلك تقليص حجم أسواقهم التجارية والاستثمارية بسبب المناخ السياسي والتوتر القائم بين المكونات والمناطق الذي ترتّب على حملاتها العسكرية ضد العلويين والموحدين الدروز وارتكابها المجازر بحقهم، وعدم نجاحها في الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على تنفيذ بنود اتفاق العاشر من مارس/ آذار الماضي، فلدى الجماعة مؤسّسات تحفظ تماسكها التنظيمي وخطاب مدني معتدل يجذب المدينيين الباحثين عن الاستقرار السياسي، وهي قادرة في حال السماح لها بالعمل العلني على تشكيل جسم نشط ومنافسة السلطة على قاعدتها السُنيّة في فترة قصيرة. في هذا السياق، يمكن قراءة دعوة زيدان الجماعة إلى حل نفسها، باعتبارها حاجة حيوية للسلطة، لأن وجودها لا يتماشى مع توجّه السلطة التي تريد وضع السُنّة أمام خيار واحد ووحيد، هو سرديتها وخياراتها وتوجهاتها، من جهة، واختباراً لردّة فعل الجماعة ومدى استعدادها للمواجهة، من جهة ثانية، فدعوة زيدان تقول بصراحة إنه لن يُسمح للجماعة بالعمل السياسي داخل سورية. ما يطرح احتمال تصادم تيارين في الإسلام السياسي في ضوء انطواء دعوة زيدان لحل الجماعة على تهديد ضمني.

لا يشكّل حلّ الأحزاب ومنع عمل جماعات منظّمة على المسرح السياسي السوري مدخلا مناسبا لمواجهة الأزمات السياسية والمشكلات الخدمية والمعيشية التي تواجهها البلاد، ناهيك عن استحالة هيمنة السلطة الجديدة ذات اللون الواحد وسيطرتها على المجتمع السوري في ضوء وجود موانع داخلية، اجتماعية وفكرية، فالتعدّد الديني والمذهبي والقومي والسياسي لا يقبل سلطة بلون واحد، وهو ما أدركه حافظ الأسد، وحاول الالتفاف عليه بتشكيل “الجبهة الوطنية التقدّمية”، فالاكتفاء بجسم سياسي سُنّي منظم وصفة لصراع مفتوح. وخارجياً، استحالة حصول استثمارات عربية ودولية في بلد غير مستقر، كما هو حاصل على خلفية المواجهات الدامية والانقسامات القائمة، حيث بقيت العقود التي وقعت مع شركات خاصة ودول من دون تنفيذ بانتظار البيئة المناسبة. فالرضى العام شرط للاستقرار والرضى العام مرتبط بإحساس المواطن بأن حقوقه مصانة، وبأنه جزء من السلطة ومشارك في قراراتها، وهذا لا يتم من دون تمثيل سياسي عبر التعدّدية والتشاركية ما يجعل الأحزاب والجمعيات والنقابات الحرّة ضرورة وحتمية لحياة وطنية مستقرّة وآمنة.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى