السلطة وجمهور الثورة

حسن النيفي

تبدي شريحة واسعة من جمهور الثورة استياءها من السلطة الجديدة بخصوص طريقة تعاطيها مع قضايا المواطنين السوريين المفصولين والمُبعدين عن أعمالهم بسبب انحيازهم إلى الثورة السورية وانخراطهم في صفوفها، إذ يواجه هؤلاء معضلة حقيقية في سعيهم للعودة إلى مواقعهم الوظيفية وأعمالهم التي كانت موكلة إليهم قبل عام 2011.

ربما تبدأ الحكاية بالتراكم منذ الأشهر الثلاثة الأولى التي أعقبت سقوط نظام الأسد، والتي شهدت صدور مراسيم وقرارات من القيادة العليا تقضي بتعليق العمل بالدستور وحل الجيش والأجهزة الأمنية، والشروع بتشكيل جيش جديد قوامه الفصائل العسكرية بمختلف تنوعاتها واتجاهاتها.

هل تعتقد الحكومة الحالية أن موقف هؤلاء المفصولين من الثورة كان خاطئاً؟ وهل كان يتوجب عليهم البقاء في مؤسسات النظام والانصياع له والتماهي مع ممارساته الإجرامية بحق الشعب السوري؟

وعلى الرغم من أهمية تلك الخطوة، إلا أنها أحدثت صدمة وانطوت على كثير من الإحساس بالخيبة لدى شريحة واسعة من الضباط المنشقين عن جيش نظام الأسد. فمنهم من واصل عمله العسكري في صفوف الثورة، ومنهم من اكتفى بالعمل في ميادين أخرى سواء كانت لها صلة مباشرة بالثورة أم لا. وعلى أية حال، فإن القاسم المشترك بين جميع هؤلاء العسكريين من ضباط وصف ضباط وأفراد، هو الموقف الوطني الرافض لعدوان النظام الأسدي على الشعب السوري، فضلاً عن الجانب الأخلاقي القائم على رفض الجريمة سواء بالمشاركة المباشرة أو بالوقوف الحيادي كشاهد زور. ولا شك في التضحيات التي قدمها العسكريون من جراء هذا الموقف، بما في ذلك المغامرة بحياتهم الشخصية ومصائر عائلاتهم وذويهم.

ربما ذهب أكثر هؤلاء العسكريين إلى أن مساهمتهم في ثورة الشعب لن تتوقف عند حدود الانشقاق، بل ستمتد إلى المساهمة في مرحلة البناء التي تلي سقوط النظام، وخاصة أن وفرتهم العددية، فضلاً عن اختصاصاتهم المتنوعة وكفاءاتهم المهنية العالية، تجعل منهم ثروة وطنية لا يمكن الاستغناء عنها. إلا أن مبادرة القيادة الجديدة في تشكيل الجيش تجاهلت هؤلاء، ما عزّز لديهم شعوراً مضاعفاً بالإحباط الممزوج بكثير من العتب. وربما لكثرة الحديث حول هذه الظاهرة بين عموم الناس، أقدمت وزارة الدفاع على الإعلان عن قبول عودة العسكريين، واشترطت أن تكون العودة عبر تقديم طلب للراغبين بذلك. إلا أن هذا الإجراء لا يخفف من عبء الشعور بالخذلان الناتج عن اعتقاد كثير من العسكريين بأن عودتهم إلى أماكنهم الوظيفية التي غادروها قبل 2011 هي حق مشروع وليست منّة من أحد، بل ربما اعتقد كثيرون أيضاً أن هؤلاء لا يجب أن تُعاد لهم حقوقهم فحسب، بل ينبغي أن يُكرَّموا على نبل موقفهم حيال قضية شعبهم.

موقف القيادة الجديدة من عودة العسكريين لا يختلف كثيراً عن موقفها من عودة شرائح أخرى إلى أعمالها، ولعل من أبرزها فئة القضاة المنشقين. إذ بعد أخذ ورد ولغط كثير، بادرت وزارة العدل إلى وضع رابط على موقعها، وعلى من أراد العودة إلى عمله من القضاة أن يدخل عبر الرابط، ثم يستكمل الإجراءات التي توجب على صاحب الطلب إثبات حالة انشقاقه أو اصطفافه إلى جانب الثورة. وقد اشتكى كثيرون من هذه الطريقة لما تنطوي عليه من استصغار واستخفاف بالراغبين في العودة إلى أعمالهم. ويتكرر الموقف ذاته مع شريحة أساتذة الجامعات والعاملين لمصلحة وزارة التعليم العالي، حيث وضعت الوزارة اشتراطات تعجيزية أمام الراغبين بالعودة إلى وظائفهم كمدرسين أو معيدين. فقد حدد الإعلان الصادر عنها مدة شهر واحد فقط لتقديم الطلبات وإنهاء جميع الإجراءات، في حين أن كثيراً من أساتذة الجامعات والمعيدين المقيمين في أوروبا أو دول أخرى كلاجئين، إذا تقدموا بطلب إلى بلدان لجوئهم يتضمن رغبتهم بالعودة إلى سوريا، فلن يتم الرد على طلبهم قبل ثلاثة أشهر، ما يعني أن استفادتهم من قرار وزارة التعليم العالي تكاد تكون معدومة.

والأمر ذاته يتكرر في تعامل الدوائر الحكومية مع مجمل المدرسين وخريجي الجامعات وطلاب الدراسات العليا، إذ تعتبرهم الحكومة مفصولين من وظائفهم بسبب غيابهم “المقصود” عن العمل، وذلك طبقاً لتعليلات نظام الأسد البائد، وكأن رواية النظام باتت هي الرواية الصادقة لدى الحكومة الحالية التي تتجاهل تبريرات النظام حين أقدم على الفصل والإبعاد. فمن المعلوم أن النظام لم يكن يذكر الأسباب الحقيقية، بل كان يتذرع بأسباب أخرى ليجرد المستهدف من أي حجة قانونية قد تدينه.

هذا الموقف المتكرر للحكومة في إصرارها على عرقلة واستبعاد المفصولين من جمهور الثورة بات يثير أسئلة عديدة، لعل أبرزها: هل تعتقد الحكومة الحالية أن موقف هؤلاء المفصولين من الثورة كان خاطئاً؟ وهل كان يتوجب عليهم البقاء في مؤسسات النظام والانصياع له والتماهي مع ممارساته الإجرامية بحق الشعب السوري؟ وبالتالي، هل ما يُمارس بحقهم الآن من مماطلة وتعجيز هو إجراء عقابي على “سلوك مشين” اقترفوه؟

إن مسألة عودة العاملين في الدولة إلى أعمالهم هي مسألة قانونية بالأصل، ولا ينبغي تجاهلها أو إخضاعها لاعتبارات أخرى.

بعيداً عن اختلاف التفسيرات، فإن ثمة تفسيرين رئيسيين يتنازعان تفسير الظاهرة:

  1. ينطلق التفسير الأول من نية حسنة شديدة البراءة، إذ يعزو ما يحدث إلى خلل إداري وجهل المسؤولين الجدد بالقوانين الإدارية، خاصة أن كثيراً من وجوه الإدارة الحالية لا عهد لها من قبل بمسالك القانون، ولا تتوفر لديها خبرة كافية للتعاطي مع حالات ذات صلة بقوانين العاملين في الدولة. ويستشهد أصحاب هذا الرأي بحالات تمت معالجتها أو تسويتها بعد مراجعة المسؤولين واستشارة أصحاب الخبرة.
  2. في حين ينطلق التفسير الثاني من قناعة مفادها أن الحكومة الحالية تريد التنصل من جميع أشكال الإرث الثوري، باستثناء الذين ينتمون إلى جذرها الأيديولوجي، أو من يحظون بتزكية مقرّبين من السلطة أو الفصائل العسكرية المشاركة فيها. وما يعزز هذه القناعة هو سلوك السلطة الذي ينطوي على المهادنة مع “شبيحة النظام البائد ومواليه”، إذ ما يزال كثير منهم في وظائفهم، وخاصة في بعض المناصب الحساسة كالإدارات العامة والسلك الدبلوماسي. أضف إلى ذلك ظهور العديد من الإعلاميين الموالين لنظام الأسد في مناسبات عامة وتصدرهم المشهد من جديد. كما يرى أصحاب هذا الرأي أن اعتماد السلطة الحالية على جملة ممن تسمّيهم “المؤثرين”، ومعظمهم لم يكن لهم أي حضور في مشهد الثورة قبل التحرير، مقابل تنحية العديد من الإعلاميين والكتّاب الذين لازموا المشهد الثوري طوال أربعة عشر عاماً، إنما يعكس نهجاً متعمداً لتحييد جمهور الثورة والاكتفاء بمن يشبهونها أيديولوجياً. وإذا لزم الأمر، فإن إشراك موالي النظام السابق يبدو أقل عبئاً من إشراك الثوار الحقيقيين.

على أية حال، وبعيداً عن المعايير القيمية سواء كانت ثورية أو غيرها، فإن مسألة عودة العاملين في الدولة إلى أعمالهم هي مسألة قانونية بالأصل، ولا ينبغي تجاهلها أو إخضاعها لاعتبارات أخرى. كما أن إهمالها والتذرع بأن السلطة لا وقت لديها للبت في هذه الأمور هو تبرير في غير محله. فالدولة، أياً كانت ظروفها، لا تعمل برجل واحد واتجاه واحد، بل هي مؤسسات، وكل مؤسسة لها دورها، ولا يجوز أن يتسبب تعطيل إحداها في شلل البقية.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى