يبدو المشهد اليومي المُتكرّر في “ساحة الكرامة” بالسويداء مُذهلاً وأشبه بالمعجزة، بعد 12 عاماً عانى فيه السوريّون من البطش والتنكيل والقمع والقتل، والاعتقالات والموت تحت التعذيب، والتهجير والنزوح والنهب والتجويع، وحرب لم تنته بعد، استُعملت فيها كافة الأسلحة لتركيع الشعب السوري، لم يدع النظام جريمة لم يرتكبها، وما زال. يقف، اليوم، عاجزاً أمام المتظاهرين العُزّل في السويداء، ليست مجرّد احتجاجات، إنها الثورة ذاتُها تمثّل الطيف الواسع للسوريّين؛ الدروز والسُّنَّة والعلويّين والأكراد والمسيحيّين والإسماعيليّين… جميعُ المكونات السورية دونما استثناء.
واجه السوريون نظاماً فريداً من نوعه في البطش، قضى طوال نحو نصف قرن، يبني شبكاته في الداخل والخارج ضدّ الشعب، من أجل البقاء. وعمل على اصطناع الخلافات، وإدارة الكراهيات، وتأسيس العداوات بين المجتمعات السورية، أثمرت حالة طائفية، استثمرها في ابتداع دعوى “حماية الأقليات”. أصبح برنامج تحكّمه بالطوائف، بتخويف الأقلّيات من الأكثرية.
مع بداية الثورة عام 2011، توحّدت أركانُ النظام: الرئاسة والجيش والمخابرات والشبّيحة، وصنيعته من رجال الأعمال والمشايخ والمثقّفين… لم يطُل الوقت، عندما استنجد بمليشيات طائفية من إيران والعراق ولبنان، واستضاف عدّة بلدان مُحتلّة لحمايته، والمقابل قواعد واستثمارات وبيع البلد بالمفرّق والجُملة. أصبح واقع الحال، اختصار الشعب إلى فريقين: موالاة ومعارضة.
شارك التنظير اليساري من النوع المُنحطّ في “علمَنة” النظام، وتبنّى مقولة “حماية الأقلّيات” من تطرُّف السُّنّة، ولم يعترف بالثورة، لم تكن حسب المقاييس العالمية المُختارة للثورات، فلا بلاشفة ولا مناشفة أو صراع طبقات، كما لا عمّال ولا فلاحين. لم يجدوا في التظاهرات السِّلمية، إلّا احتجاجات وقلاقل، ولو كان الذين تظاهروا بالملايين، وإذا كانت انتفاضة فلم تعمّر طويلاً، ثم أنّها حملت السلاح، مع أنّ الثورة الفرنسية والروسية حملتا السلاح، وإذا لحقت بها شُبهة ثورة، فلم تدُم أكثر من أيّام وربّما أسابيع. وحسب بعض الانتهازيّين، لم يزد ما حدث عن “زلزال”، وربّما إعصار، فإذا كانت زلزالاً فقد عاد كلّ شيء إلى ما كان عليه، وإذا كانت إعصاراً فقد عصرت البلد وذهبت به إلى العصر البدائي.
تستعيد السويداء لحظة 2011 مُثقلة بمخلّفات حربِ الاثني عشَر عاماً، وحطام ثورة كان ثمنُها باهظاً؛ ملايين الشهداء والمهجّرين والمُعتقلين، وكأنّ الثورة ماتت أو ذهبت إلى غير ما عودة. حراك السويداء كذّبها، الثورة لم تمُت حتى تعود إلى الحياة، ولم تذهب، لأنها لم تُغادر. كانت تسري، تبحث عن ثغرة تنفذ منها، وجدَتها في السويداء التي أسّست حراكها على حدث 2011 ببداية واعية، لن تُكرّر إخفاقاتها، تستعيد جوهرها، وتبني عليه. وسواء كانت تُتابع أعمالها، أو تستأنفها بعد تعثّرها سنوات، فهي جزءٌ منها، تتدارك أخطاءها، وتحمل على عاتقها مطالب السوريّين جميعاً.
يستثمر الدروز موقعهم المتميّز في سورية. بالإعلان عن دُرزيّتهم كهويّة، وتفرض أجندات السوريّين من سُنّة وعلويّين وأكراد ومسيحيّين وإسماعيليّين… لا تنازل عن الهويات، لا مخاوف من الطوائف، كانت تدعو إلى التعاضُد لا التقاتل. لم تستقو طائفة على طائفة. سورية بلد الهويّات، وسورية هويّة الجميع، لن تكون هويّتها عائلة الأسد.
أخفقت الدول العربية في استجرار النظام إلى التفاوُض باتّفاق خطوة مقابل خطوة، مع أنّه لا يعني أكثر من بقاء الأسد الذي لم يعُد يمثّل سوى المُجرمين واللصوص. المُؤسف أنّ العرب قدّموا له طوق الإنقاذ، مع أنهم يعرفون أنّ الاتفاق، كان من أجل تنشيط المصالح الاقتصادية للمنطقة، ولم يكُن من العدالة أن يكون ازدهار البلدان العربية على حساب حرّياتنا، ولا من الإنصاف التغاضي عن الدكتاتورية على حساب شُهدائنا ومعتقلينا. يمنحونه صكّ البراءة، في حين أنّ المطلوب محاكمته. وما إخراج السوريّين من مُعادلة عودة النظام إلى الجامعة العربية إلّا إرضاء لرئيس قاتل.
تتحرّك السويداء، من دُون الانفراد بحَلٍّ وحيد، بل حلّ يشملُ السوريّين جميعاً، لذلك أيّها السوريّون لا تتركوا السويداء وحيدة، سورية موعودة بحراك سِلمي يعمّ مُدنها وقُراها. والحلّ ليس هناك غيره، إسقاط النظام.
سورية ليست مُلكية خاصة حتى تكون السويداء من أملاك عائلة الأسد، وما يُقال عن أنّ العائلة الرئاسية مُنفصلة عن الواقع الذي يعيشه الناس، هو صحيح، إذ لم يبق من النظام سوى مرتزقة يُوالون النهب، وشبكات صناعة المُخدّرات وتهريبها، وعصابات الشبّيحة، وجيش عماده مرتزقة الفرقة الرابعة، بينما دول الاحتلال تُطالب بديونها من مليارات الدولارات ثمن أسلحةِ قتل الشعب السوري وتدمير مُدنه وقراه.
لا تبدأ ثورة السويداء من فراغ، بل من تراكُم آلام السوريّين، من الظُّلم والافتقاد إلى العدالة، من الموت اليومي، والمعتقلات والتعذيب والإخفاء القسري، والنهب، الفقر والتجويع والغلاء… هذا الرأسمال تأخذه على عاتقها، وتعمل على وضع حدٍّ له، الشعب استوعب دُروس ثورة عام 2011 المغدورة، تكاليفها الهائلة لن تذهب عبثاً.
في تقديرات البعض، تبدو الثورة في السويداء غامضة، تُرى مَن يقودها، اليمين أم اليسار، الاشتراكيون أم الشيوعيون، الرأسماليون أم الكادحون، الرجعيّون أم التقدميون، العِلمانيون أم المؤمنون، الديمقراطيون أم الشعبويون… ليس أحداً منهم.
ثورة السويداء يقودُها العقل.
لم تعد هناك أيّة حُجّة تنفع في تغييب السوريين عن قضيتهم، ليس النظام ولا إيران أو روسيا ولا حتى أميركا و”إسرائيل”، يتحكّمون بمصير سورية… للسوريّين وجودٌ وصوت… إنهم الطرف الأساسي في المعادلة… وهذا الطرف مركزُه السويداء، وتمثّل سورية، وهي صوت السوريّين جميعاً.
يضع حراك السويداء العرب والعالم أمام ما بات واقعاً. إذا أرادوا البحث في القضية السورية، فقد أصبح هناك عنوان يقصدونه، ورقم يتصلون به… إنه السويداء.
المصدر: العربي الجديد