أهمية حيادية الدولة للاجتماع السياسي السوري   الدولة المحايدة هي المجتمع السياسي الذي يحكمه الحق والقانون

  عبد الله تركماني

يعيش العالم تحوّلات كبرى في المجتمعات والقيم والمفاهيم، وفي سياق هذه التحوّلات وإلى جانب ما كشفته المرحلة الانتقالية منذ 8 كانون الأول (ديسمبر) من شروخ في المجتمع السوري، تتبدّى أهمية العلمانية للاجتماع السياسي السوري، فهي تقتضي أنّ «السياسة فعالية دنيوية»، وأنّ الهدف هو بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة، دولةٌ كُلُّ مواطنيها أحرارٌ متساوون في الحقوق والواجبات، دولة القانون والحقوق والمؤسسات. إذ يبدو من الصعب التقدم نحو الحرية المنشودة من دون التعاطي مع التناقضات الاجتماعية بشكل مجدٍ، خاصة مسألة التمييز الديني أو المذهبي أو القومي على كافة مستويات الحياة العامة، بما فيها قضايا الأحوال الشخصية.

وانطلاقاً من أنّ الواقع يفرض ديمومة مظاهر التديّن، فإنّ مشروع هذه القراءة لأهمية حيادية الدولة يقوم على الفصل المنهجي بين ميدان العقيدة الدينية (العقائد والعبادات) وميدان المُنجَز الحضاري للحداثة السياسية بما هو تراكمات حصلت في مجالي المجتمع والسياسة (المعاملات). ولكن، بالانطلاق من أهمية حيادية الدولة، وتَمايُز المجتمع واستقلاله النسبي عنها، فإنّ العلمانية في الدولة الحديثة تتجلى في أنّ مجال الدين هو المجتمعُ لا الدولة، أي أن الدين جزءٌ من الحريات العامة للفرد في الحيّز العام، وأنه شأنٌ خاص بالفرد.

إننا في العلمانية إزاء نظام عام عقلاني يُنظّم العلاقات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، فيما بينها ومع الدولة، على أساس مبادئ وقوانين مستمدة من الواقع الاجتماعي والتجربة التاريخية، يتساوى أمامها جميع أعضاء المجتمع ومكوّناته، بصرف النظر عن الانتماءات الدينية والقومية والفكرية. ولمّا كان الأمرُ كذلك، فإنّ العلمانية تجد مرتعها الخصب في إطارٍ من الديمقراطية، التي تُمَارَس عقلانياً وتنويرياً، وذلك على نحو تغدو فيه الديمقراطية والعقلانية والتنوير أحد أوجه العلمانية، وصيغةً من صيغ التحفيز عليها.

إنّ العلمانية ارتبطت بأكثر من معنى، فهي ليست فقط فصل الدين عن الدولة كما هو شائع في بلادنا، بل كان الارتباط الأوثق بين العلمانية والدولة الوطنية الحديثة، حين انبثقت من ثقافة ديمقراطية وصراع في سبيل التقدم وكرامة الإنسان، وجاءت بمثابة تأكيد على قدرته على تنظيم شؤونه تنظيماً عقلانياً مُجدياً. لذا فإنّ المبدأ الأساسي في العلمنة يؤكد أنّ الدين أمر شخصي، وينبغي فصله عن الدولة والمدرسة والأحوال الشخصية.

وعندما تُطرَح العلمانية بمعنى عدم تدخّل الدولة في الشؤون الدينية والفكرية لمواطنيها، فإنها تكون أقرب إلى مفهوم سياسي، يُشكل ضمانة أكيدة للمساواة والتلاحم في المجتمع، حين تكون العلاقة بالوطن والدولة علاقة سياسية وليست علاقة دينية، بينما العلاقة الدينية تحدُّ من المساواة السياسية بين أصحاب الديانات والقوميات المختلفة. تقتضي العلمانية «نشوءَ منطق الدولة الذي يتغلب على الاعتبارات الدينية، حيث يُصبح الحكم السياسي على الأمور نابعاً من مصالح الناس في الدنيا… وهذه المرحلة من عَلمَنة الدولة والقانون ممكنةُ التطبيق، حتى قبل بلوغ المجتمع وأنماط الوعي فيه درجات عالية من العَلمَنة. وتحييد الدولة في الشأن الديني قانونياً ممكنٌ حتى في مجتمع متدين، بل بالذات في المجتمع المتدين. وقد يحتاج إلى حماية الدولة لحرية ممارسة الدين، حيث تتعدد الديانات والطوائف، أو حيث أدى استخدامُ الدينِ للدولة، أو استخدام الدولةِ للدين، إلى تقييد العقيدة المخالفة وممارستها». 1

وتحضرُ العلمانية، عند المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ، باعتبارها «منظومة متكاملة، تستدعي جميع حيّزات التجربة التاريخية للأمة: معرفياً، واجتماعياً، وسياسياً ». 2 وهنا نلاحظ أنّ التلازم الذي طرحه بين الدولة الوطنية الحديثة والعلمانية لم يتوقف عند حدود السطح السياسي، والترسيمات المحدودة عن «فصل الدين عن السياسة» بل استعاد المنظور المعرفي دوره، بوصفه أساساً جوهرياً لبناء الدولة الحديثة. وعندما سُئل المفكر السوري الراحل الطيب تيزيني عن تعريفه للعلمانية وعلاقتها بالديمقراطية والإسلام، قال «هي منظومة من الأفكار تؤسس لوجود البشر، الذين يوجدون في مجتمعات قائمة على التعددية الدينية والإثنية والسياسية والطائفية، هي أكثر من أن تكون ناظماً لفكرة العلاقة بين الدولة والمجتمع، لأنها تدخل في خصوصيات كل هذه المسائل». وردّاً على أولئك الذين يصفون العلمنة بـ «الزندقة»، قال «علينا أن نأخذ المصطلح كما يدل عليه في وجوده الغربي، الذي لا يعني الإلحاد ولا يعني الزندقة، وإنما يعني منظومة من المفاهيم والمصطلحات والأفكار التي تضبط علاقة البشر بمنظوماتهم الطائفية الإثنية المذهبية بالسلطوية السياسية، وبالتالي لا تسيء لأحد ضمن هذا المنظور العمومي. نحن هنا نحتاج الديمقراطية مُعلمنةً والعلمانية ديمقراطية، وبهذا المعنى نكون قد أسّسنا لما هو قابل للتبنّي أو الاستلهام، سواء كان علمانياً أو أي فكرة يجري تداولها في الفكر العالمي».  3

كما اعتبر تيزيني أنّ شعار «الدين لله والوطن للجميع» هو التعبير المكثّف عن العلمانية، بمعنى «الفصل بين الدين والدولة»، وحسب تعبيره فإنّ هذا الشعار ينطوي على معنى التحوّل إلى «وجه مدني من الوطن المدني والدولة الوطنية»، أمّا الموقف العقيدي، أي الموقف من الله، فقد «اعتُبِرَ شخصياً بقدر ما اعتُبِرَ محترماً ومَصوناً». وقد اتضح له أنّ «الطائفية العقيدية الدينية يمكن تحويلها إلى نسق سياسي، من شأنه أن يُسعِّر الصراع الديني والإثني بين الأقليات والأكثرية».  4

وثمة وجهٌ آخر للعلمانية على أنها «جهادٌ في سبيل الدنيا كخيار بديل عن الجهاد في سبيل الآخرة»، وهذه النظرة يمكن أن تكون مهمةً لمشروع دولة وطنية سورية حديثة، تتفوق على المؤسسة الدينية وتحتكر العنف من حيث أنها فاعل أساسي في جدلية التقدم والتخلف. ينظر المفكر السوري جورج طرابيشي إلى العلمنة بوصفها مسألة جهادية دنيوية، أحدثت تحوّلات هائلة في المجتمعات الغربية، وجاء نجاحها بعد أن أخذت مستويات متعددة  5 أولها، «العلمنة الدينية» التي كسرت احتكار الكنيسة للإيمان، وردّت الإيمان إلى الشخص البشري، وكسرت احتكار تأويل النصوص المقدسة. وثانيها، «العلمنة الثقافية» التي أعتقت الأدب من ربقة التصوّر الديني للعالم، وجعلته متمحوراً حول الإنسان ومصيره الدنيوي. وثالثها، «العلمنة اللغوية» التي تمثّلت بالتمرد على لغة الكتاب المقدس، عبر تكريس اللغات العامية الدنيوية. ورابعها، «العَلمنة الإنسانية» التي أعادت عملية إحياء الثقافة الوثنية للعصور القديمة. وخامسها، «العلمنة العقلانية» التي اقترنت بإعادة اكتشاف الفلسفة اليونانية التي كانت ترى إلى العقل كمُعطى أول، مما جعل الفلسفة تعمل بإمرة العقل وتحت سيادته، بعد أن كانت سابقاً خادمة للّاهوت. وسادسها، «العلمنة العلمية» التي أفادت من الثورة الكوبرنيكية، لتُوجّه طعنة للنظرية التوراتية حول الكون ومركزية الأرض والقول بمركزية الشمس، والأهم من كل ذلك تكريس حق العلم، وبالتالي العقل البشري، في التحرر من الأساطير الغيبية، وفي التثوير الدائم واللامتناهي للمعرفة الدنيوية. وسابعها، «العلمنة الطبقية» المتمثلة بظهور وصعود الطبقة البورجوازية، التي حصرت جهادها بالأرض وليس بالسماء، وتمحوَرت فلسفتُها حول المادة أكثر منها حول الروح. وثامنُها، «العلمنة القانونية» التي أكدت على نقل مبدأ التشريع من الله وخلفائه على الأرض إلى الشعب، عبر ممثليه في البرلمانات. وتاسعها، «العلمنة السياسية» التي حصرت مبدأ السيادة بالأمة، والتي ساهمت في نشوء وتبلور الدولة/الأمة أو الدولة الوطنية. وعاشرها، «العلمنة الجنسية» حيث تفتقت هذه العلمنة عن تحرير مزدوج للحياة الجنسية البشرية من ربقة الجريمة وربقة الخطيئة معاً.

ولا شك أنّ هذا التمييز بين العَلمنة، كسيرورة تاريخية وحضارية، وبين العلمانية كآلية قانونية ضروري، لا لتفهّم واقعة الحداثة الأوروبية وحدها، بل كذلك لتفهُّم واقعة تَعلمُن المجتمع، بالتوازي مع تَعلمُن الدولة في البلدان الأوروبية، على خلاف ما حدث في روسيا البلشفية أو تركيا الكمالية، حيث أجبرت الدولة المجتمع على اعتناق العلمانية وفرضتها عليه فرضاً، كإيديولوجيا أو حتى كدين بديل.

وهكذا، فإنّ العلمنة هي «نموذج سوسيولوجي في فهم المراحل الحديثة وتفسيرها في عملية تمايز وتمَفصُل، بدأت منذ وعي الدين باعتباره ديناً». وباعتبارها تطوراً تاريخياً متعيّناً، منذ فجر الحداثة والثورة العلمية «تتجلى في انحسار الدين من مجال فكري واجتماعي بعد آخر، بما في ذلك تحييد الدولة في المجال الديني، وتحييد العلم دينياً».  6 وهي كمفهوم «اسم لأنموذج تفسيري لعملية تطور إنسانية عامة، على مستوى التاريخ الطويل، فيما يتعلق بمعرفة الظواهر، وفيما يتعلق بعلاقة السلطة الدينية بالسلطة السياسية أو الدين بالدولة».  7

لقد كان للعلمنة وجهان في الحداثة الغربية.  8 أولهما، فرانكفوني (العلمانية الصلبة)، يعني علمنة المجتمع وانحسار التدين، وتآكل هيمنة الثقافة الدينية وممارساتها وتعبيراتها. وثانيهما، أنكلوساكسوني (العلمانية الناعمة)، وهو لم يبدأ بكنيسة تحتكر المجال الديني والثقافي وتشارك في السياسي، بل بدأ بتعدد كنائس يجري تحييد الدولة تجاهها، وتعرض نموذجاً حيوياً جداً لبقاء الدين والتدين وتطورهما في المجتمع في حيّزهما الخاص والعام، ولا يتدخل الدين في الاختصاصات العلمية والمهنية والاقتصادية. وكان لذلك أثره أيضاً في فهم الدولة العلمانية وتحديدها، باعتبارها إيديولوجيا سياسية ودستورية في الحالتين.

وهكذا، تُوصلنا النقاشات السياسية المعاصرة، في شأن الدين والسياسة، إلى نتيجة مفادها أنّ الطريق الفُضلى لتحييد الدولة في الشأن الديني «هي مسار تاريخي لا يؤدي إلى وصول أوساط إلى هذه القناعة ببرامج ثقافية وسياسية تدعو إلى هذا الفصل أو التحييد فحسب – ونسميهم علمانيين بالمعنى الإيديولوجي للكلمة – بل إلى وصول المتدينين أيضاً إلى قناعة مَفادُها ضرورة تحرير الدين من سيطرة الدولة. هذه الطريق تُبنى على ظرف نشوء العلمانية من خلال تأكيد الحرية الدينية وحماية تعدديتها».  9

وهكذا، فإنّ الدولة المحايدة هي المجتمع السياسي الذي يحكمه الحق والقانون، وهي فعالية بشرية أكثر مما هي تفويض إلهي، وهي تهتم بالشؤون الدنيوية، وهذه النقطة حاسمة لأنها مرتكز مفهوم السيادة والحاكمية.

 المصدر: الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى