في العلاقة بين المجتمعين المدني والسياسي

عبد الله تركماني

إنّ التقابل بين الدولة والمجتمع المدني، بوصفهما كيانين منفصلين، هو تقابل خطر على الدولة والمجتمع سواء بسواء. إذ إنّ دراسة المجتمع المدني لا يمكن أن تتم بمعزل عن الدولة وتطورها ودستورها وقوانينها، ذلك لأنّ ظهور الدولة ونشأتها، بمعنى المجتمع السياسي الحديث، قد ترك تأثيره على المجتمع المدني.

في سوريا، يبدو أنّ إشكالية الدولة وأسئلتها قد تكون من بين أكثر الإشكاليات تعقيداً والتباساً في الخطاب السياسي، خاصة بعد التغيير في 8 كانون الأول/ديسمبر، حيث اعتقد السوريون أنهم سينتقلون من الدولة التسلطية لآل الأسد إلى دولة الحق والقانون، التي تقوم على التشاركية السياسية والمجتمعية، فوجدوا أنفسهم في دولة “السلفية الجهادية” التي يسيطر عليها مشايخ “أخوة المنهج”.

في حين أننا أحوج ما نكون إلى مرحلة انتقالية تعتمد حكماً رشيداً اكتسب شرعية في العديد من الدول التي انتقلت من دول تسلطية إلى دول حق وقانون، بعد أن اعتُبر من أبرز توجهات العصر، حيث اكتسب شرعية في حقول السياسة والاقتصاد والمجتمع، مع نضوج ثقافة حقوق الإنسان والمواطن، وأصبح طموحاً وشاغلاً إنسانياً على الصعيد العالمي. فتوفرت في هذا المجال اقتراحات متعددة لمعايير الحكم الرشيد تُقاس نماذج الحكم على سُلّم قيمها، كما أصبح من الشائع إعلان عدة دول، في المراحل الانتقالية، مقاربة ذلك الأنموذج في سياساتها، كما حصل في رواندا بعد حرب أهلية. إذ إنه يُبنى على ركائز أساسية: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة القانون، والفاعلية، والإنصاف.

من الخطأ النظر إلى الدولة السورية بمنطق التماهي أو المماثلة مع سلطة المرحلة الانتقالية، إذ إنّ التمييز بين الدولة وغيرها من الأجهزة المندرجة في إطارها أمر في غاية الأهمية لفهم مضمون الدولة وتمثّلها من جهة، ولترشيد الفعل السياسي والمدني من جهة أخرى.

ومن المؤكد: أولاً، أنّ توفير الركائز السابقة لا يكتمل إلا بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني، وفسح المجال أمامها لمراقبة أجهزة السلطة ومؤسساتها وتقويمها ومحاسبتها. وثانياً، أنّ الحكم الرشيد لا يعني إضعاف دور الدولة بل يعني تغيير دورها، فعندما يسعى منظور الليبرالية الاقتصادية المتوحشة لإضعاف دورها، بدعوى اقتصاد السوق وإطلاق آلياته الفعّالة، تتحول الليبرالية إلى عائق أمام الديمقراطية، ليس فقط بسبب ما تفترضه من تطابق تلقائي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية فحسب، وإنما أكثر لأنها تنزع إلى تجاهل قيم العدالة والمساواة، التي لا يمكن أن تستقيم من دون تدخل الدولة الممثلة لعموم الشعب وإرادته العامة.

وفي الواقع، لا يستقيم الحديث عن المجتمع المدني من دون التسليم بمكانة الفرد/المواطن في هذا المجتمع. وإذا كان المجتمع المدني، في فلسفة التنوير، هو مجتمع المصالح المادية ومجتمع المصالح الخاصة للفئات الاجتماعية المعبّر عنها، فإنّ الأفراد/المواطنين في الدولة هم من يعنيهم بالأساس تحقيق تلك المصالح.

إنّ التنكّر للدولة باسم المجتمع المدني قد يصبُّ في مصلحة الأنشطة الدولية المصاحبة للتحوّل إلى اقتصاديات السوق عالمياً، وما ينتج عن ذلك من انسحاب تدريجي للدولة من دورها الاجتماعي لمصلحة الشركات المتعددة الجنسية. وبالتالي، فالقبول بإحلال المجتمع المدني كبديل عن الدولة ليس إلا وهماً جديداً، لا يختلف في جوهره عن الوهم الذي يسيطر على بعض النخب السورية، المتمثل بفصل القضية الاجتماعية عن القضية الوطنية العامة.

ومن جهة أخرى، من الخطأ النظر إلى الدولة السورية بمنطق التماهي أو المماثلة مع سلطة المرحلة الانتقالية، إذ إنّ التمييز بين الدولة وغيرها من الأجهزة المندرجة في إطارها أمر في غاية الأهمية لفهم مضمون الدولة وتمثّلها من جهة، ولترشيد الفعل السياسي والمدني من جهة أخرى. فحين يصبح هذا التمييز منغرساً في وعينا الجمعي، ومنبثاً في ثقافتنا السياسية، نستطيع ترتيب ولاءاتنا بشكل عقلاني وسليم، حيث تنتصب الدولة في المقام الأول، وتتصدر غيرها من الإعاقات، وهي كثيرة في سوريا بعد 54 سنة من نظام آل الأسد التسلطي.

إنّ دولة الحق والقانون لا تزال مطلباً ضرورياً في الحالة السورية، بوصفها مرجعاً وخياراً للعمل المجتمعي المؤسسي، وتقع على عاتقها مهمة بناء الهوية الوطنية الجامعة لكل الهويات الفرعية للمكوّنات السورية، التي تتقاذفها مختلف الانتماءات ما قبل المدنية، من طائفية وإثنية وقبلية، وتخطّي تبعات البنى والتكوينات المجتمعية الضيقة، إلى جانب حماية الفرد من بطش سلطة الدولة وسطوتها.

في ضرورة قيام مجتمع مدني مستقل

حيث يُعتبر إحدى الوسائل في مواجهة طغيان سلطة الدولة وسبيلاً لتحقيق حرية الفرد، ويتعاظم دور هذا المجتمع في كل مرة يصبح فيها الشأن العام أكثر التصاقاً بأمور مطلبية مباشرة، هادفة ومشروعة. هذا المجتمع المدني، الذي أثبت أنه أكثر وعياً من السلطة التي تحكمه، كيف له أن يؤثر على هذه السلطة وكيف له أن يحملها، بوسائل الضغط السلمية المشروعة، على تبنّي مشروعه أو على القبول به كمدخل للنقاش في اتجاه تشاركية حقيقية؟

إنّ ما يتوافق عليه الجميع هو كون مؤسسات المجتمع المدني مستقلة عن مؤسسات الدولة، وغير خاضعة لسلطتها، وتمارس دوراً متعدد الجوانب يبدأ بالسياسة لجهة الرقابة ومتابعة ما يصدر عن سلطة الدولة في ميادين متصلة بحقوق الإنسان والحريات السياسية والفكرية والإعلامية، بما يساعد على انخراط المواطنين في الشأن العام، إلى مهام اجتماعية وتنموية، وقضايا تتناول هموم المواطن. لكنّ حدود الفاعلية والقدرة على التدخل تبقى شأناً آخر له علاقة بطبيعة السلطة القائمة ومدى سماحها بحرية ممارسة هذا التدخل.

إنّ شرعية وجود المجتمع المدني مهمة من حيث وظيفته الاعتراضية السلمية، ذلك أنّ توسّع فكرة المجتمع المدني فتح باباً لدخول شركاء جدد في الحياة العامة، يرصدون ويراقبون ويحتجون ويعترضون ويقترحون بدائل عمّا هو قائم. إذ إنّ مجتمعاً مدنياً، على أساس المواطنة والمساواة والتطوعية، يسعى لتفعيل حق المشاركة، يمكن أن يصبح قوة اقتراح مع دولة الحق والقانون.

لا بدَّ من الحكم الرشيد كمطلب أساسي في إدارة الدولة، وتنشيط دور المجتمع المدني ليقوم بدوره الرقابي والمساءلة في حال التقصير أو العبث بالمال العام وبالتالي المصلحة العامة.

خطر تماهي المجتمعين السياسي والمدني

حيوية مؤسسات المجتمع المدني تفقد دلالاتها عندما تتماهى مع المجتمع السياسي أو تشتغل ضمن النظام القائم وعدم المسّ به. ويعود سبب التمييز بين المجتمعين المدني والسياسي إلى أنّ الأخير يسعى إلى الهيمنة على المجتمع المدني، محاولاً التأثير على واقعه ومستقبله. وما كان للدولة التسلطية أن تفلح في ذلك لولا ما سمّاه المغفور له الدكتور خلدون حسن النقيب “الاحتكار الفعّال لمصادر الثروة والسلطة والقوة”، وما يقتضيه من احتكار الحقيقة والوطنية. ومن ثم فإنّ لإحياء المجتمع المدني ثلاثة مداخل ضرورية: أولها، كسر احتكار سلطة الدولة وتعزيز طابعها الديمقراطي ووظائفها الاجتماعية. وثانيها، إلغاء طابعها الجزئي، أي إلغاء كونها دولة عصبية من العصبيات. وثالثها، إلغاء طابعها الأمني.

فإن كانت قيادة المرحلة الانتقالية لا تزال رهينة فكرة الحجر على المجتمع ومنعه من التعبير عن نفسه، أو الحد من حراك المجتمع وجماعاته، فمن البديهي عدم حصول أي تقدم في دور المجتمع المدني، وإبقاء الحال على ما هو عليه، خصوصاً لجهة تعميق الانسدادات القائمة، بما فيها تهديد السلم الأهلي، كما حصل في الساحل والسويداء.

ولا شك أننا في سباق مع الزمن، والخيارات باتت أمامنا محدودة، والمطلوب من الجميع السرعة في اتخاذ قرار شجاع ووحيد، وهو خيار دولة الحق والقانون التشاركية، الموحّدة والعادلة لا مركزياً على أساس جغرافي وليس قومياً أو طائفياً، فهي القادرة على حماية مواطنيها والحفاظ على كرامتهم وممارسة حقوقهم وحرياتهم الأساسية في ظل سيادة القانون، بحيث يخضع له الحكام والمحكومون على حد سواء، وينعم الجميع بعدالته إذا ما روعيت المناهج السليمة والموضوعية في فرض أحكامه.

وفي سوريا الجديدة، فإنّ الأولوية تقتضي إعادة السياسة إلى المجتمع، بما يضمن ويمكّن قواه الحية من الدخول في الحوار، وتبادل الرأي في كل مسائل الشأن العام، بصبر وروية، والابتعاد عن الشعارات الطنانة، كي نقترب من جوهر السياسة القائم على الاستعداد للتفاعل والتبادل والتسويات، من خلال عقد اجتماعي مبني على إرادة جماعية عليا، على جميع أفراد المجتمع احترامها وقبولها والانصياع لها. ويقتضي ذلك الموافقة على كل بنود وعناصر العقد الاجتماعي المبرم، الذي يضمن الحقوق المدنية والواجبات مع احترام حقوق الآخرين. وفي هذا الإطار، يتعين تطوير نظام فصل السلطات ومراقبة بعضها البعض، بما يضمن عدم تغوّل إحداها على الأخرى.

وهكذا، لن نستطيع الخروج من مأزقنا الحاضر دون إيجاد نظام سياسي كفء، يتناسب مع متطلبات العصر ومعايير الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، تستطيع فيه جميع مكوّنات المجتمع المشاركة والتفاعل من أجل حلول أفضل لمشكلاته. نظام ديمقراطي يتوازن فيه الحاكم والمحكوم، ويتم تداول السلطة فيه بطريقة حضارية، وتتطور فيه القوانين والأداء بشكل حضاري.

وعليه، لا بدَّ من الحكم الرشيد كمطلب أساسي في إدارة الدولة، وتنشيط دور المجتمع المدني ليقوم بدوره الرقابي والمساءلة في حال التقصير أو العبث بالمال العام وبالتالي المصلحة العامة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى