مجتمعاتنا وغياب الهوية الوطنية الجامعة

عبد الباسط سيدا

تعيش دول المنطقة ومجتمعاتها أزمات عميقة، تستنزف مواردها وطاقاتها، وتحول دون حدوث تراكماتٍ مطلوبةٍ على صعيد الخبرات والإمكانات في الميادين العلمية والتكنولوجية والاقتصادية. تراكمات تكون مقدّماتٍ لتنميةٍ مستدامةٍ قادرةٍ على تأمين الاحتياجات الراهنة، وضمان المقوّمات المستقبلية؛ وهو الأمر الذي من شأنه تحقيق الاستقرار، وتعزيز الآمال الواقعية بوضعٍ أفضل للأجيال المقبلة، فمجتمعاتنا ما زالت تبحث عن هويةٍ جامعة، وتعاني من وطأة الخصومات والصراعات بين أصحاب النزعة القومية وأصحاب النزعة الدينية. أما بدايات هذه الوضعية فهي تعود، بصورة رئيسة، إلى أوائل القرن الماضي، حينما انهارت الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة قرونا باسم الخلافة الإسلامية. وكان ذاك الانهيار بفعل جملة عوامل، منها داخلية، في مقدمتها الصراعات بين القوى المتخاصمة ضمن الدولة ذاتها؛ ومنها خارجية، تمثّلت في جهود الدول الاستعمارية حينئذ، وسعيها من أجل تقسيم تركة الدولة المعنية في ما بينها. وقد اعتمدت تلك الدول، خصوصا بريطانيا وفرنسا، استراتيجية تشجيع الهويات المعارضة للهوية الإسلامية العامة التي كانت تعد الرابطة التي شدّت بين القسم الأكبر من المكوّنات المجتمعية التي كانت تحكمها الدولة العثمانية، فبريطانيا شجّعت أصحاب النزعات القومية، خصوصا من العرب، وأعطت الوعود بتشكيل دولةٍ عربيةٍ في المشرق، كما وعدت الكرد والأرمن وغيرهم. بينما حاولت فرنسا الاستثمار في الأقليات الدينية والمذهبية، لا سيما في سورية ولبنان.

ومع تشكّل دول المنطقة، بناء على الإرادات والتوافقات والمصالح الاستعمارية، عاشت المجتمعات العربية، سواء في الشرق الأوسط، أم في شمال أفريقيا، حالة اغترابٍ حقيقية تجسّدت في حرص السلطات المحلية، بعد مرحلة الاستعمار المباشر، على التمسّك بالحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية لدولها من جهة، وسعيها، في الوقت نفسه، إلى شرعنة ذاتها عبر رفع شعاراتٍ وحدويةٍ قومويةٍ تعبويةٍ عابرة للتقسيمات الجديدة، اعتمدت غطاء للتستّر على إخفاقاتها وتجاوزاتها الداخلية ومهامها الوظيفية. أما معارضة هذه السلطات من القوى الإسلاموية على وجه التحديد، فقد اعتمدت هي الأخرى شعاراتٍ عابرة للحدود الجديدة، مع فارق بينها وبين القوى السلطوية، تشخّص في عدم اعترافها بتلك الحدود التي لم تستفد منها سلطوياً، وإنما ظلت تطالب بتوحيد الأمة.

وهكذا حدث استقطاب عام توزّعت بموجبه الأحزاب والقوى السياسية في منطقتنا بين توجهين محوريين: قومي ديني. حاول الأول أن يبني مشروعيته من خلال الزعم أنه يقاوم المشاريع الاستعمارية، ويعمل على تحقيق الوحدة القومية. في حين أن الثاني ركّز على أهمية توحيد الأمة الإسلامية. وفي أجواء الحرب الباردة التي خيّمت على المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية؛ وبغرض التضييق على الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، أقدمت أحزاب قومية على المزج بين التوجهات القومية والاشتراكية؛ وقد تأثرت في هذا المجال بأحزاب قومية أوروبية عديدة، خصوصا في ألمانيا وإيطاليا. مع الأخذ بعين الاعتبار واقع أن الحامل الاجتماعي لهذه الأحزاب، والحاجة إلى كسب ود الأوساط الشعبية التي كانت تتحرّك ضمنها، كانا من بين العوامل التي دفعت بتلك الأحزاب إلى رفع لواء الاشتراكية، لأنه كان يساعدها في حسم خلافاتها مع الخصوم المحليين المحتملين والواقعيين، سواء من القوى الاشتراكية واليسارية، أم من كبار التجار والصناعيين، وكبار الملاكين، فهؤلاء كانوا يشكّلون قوة سياسية اجتماعية اقتصادية مؤثرة، وجدت فيها القوى العسكرية الصاعدة في مختلف الدول العربية، التي اعتمدت النظام الجمهوري تحت يافطة أيديولوجية قومية – اشتراكية، ما يهدّد نزوعها السلطوي؛ وقد تجلى ذلك بصورة خاصة في مصر وسورية والعراق، وكذلك في اليمن وليبيا والجزائر والسودان.

وعلى الرغم من وجود معارضاتٍ قومية واشتراكيةٍ وليبراليةٍ لتلك الأنظمة الجمهورية – العسكرية؛ إلا أن القوة الأساسية التي كانت تعتبرها الأنظمة خطراً على استمراريتها كانت تتمثل في جماعة الإخوان المسلمين التي انتشرت تنظيماتها في مختلف الدول العربية، وتكيّفت مع الوضعية المشخصة لكل بلد. ولكنها ظلت على المستوى العام تياراً موحّداً، تتبادل من خلاله تنظيمات الجماعة في كل بلد الخبرة والمشورة والدعم. وهي بذلك لم تتميّز كثيراً عن الأحزاب القومية، خصوصا الناصرية منها والبعثية التي كانت تحرص على بناء تنظيماتها في مختلف الدول العربية، لتكون ذراعاً لها. هذا مع أن السلطة وامتيازاتها، وشروط المحافظة عليها، كانت تلزم تلك الأحزاب القومية بالتركيز على الدولة الخاضعة لحكمها بصورة أساسية.

وقد استطاعت السلطات العسكرية الجمهورية أن تضبط قواعد اللعبة، وتفرض نفسها على مدى عقود تحت غطاء “ضرورات المعركة مع الاستعمار”، و”مستلزمات تحرير فلسطين”، و”الصراع مع القوى الرجعية”. ولكن مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وتراجع شعبية الأنظمة الشمولية على المستوى العالمي، والتركيز على قضايا حقوق الإنسان، وتراكم السلبيات والإخفاقات في تجارب الأنظمة العسكرية، اضطرت هذه الأخيرة لاتخاذ بعض الخطوات، في مسعى منها إلى تحسين صورتها، وأفسحت للمعارضة هامشاً للتحرّك غير محصّن بأي ضمانات قانونية أو دستورية، وأتاحت لها المجال أمام تنافسٍ محدودٍ في انتخابات “المؤسسات” التشريعية والمحلية، على الرغم من شكلية تلك “المؤسسات” التي جاءت، هي الأخرى، في سياق الرتوش التي كانت لتجميل الصورة.

ويُشار هنا، على سبيل المثال، إلى الانتخابات في الجزائر عام 1991، وفازت فيها القوى الإسلاموية التي قدّمت نفسها بوصفها البديل عن الحكم العسكري المستبد الفاسد، وكان فوزها في الانتخابات بفعل الأيديولوجيا التعبوية التي اعتمدتها، وهو الأمر الذي لم يقبل به الحكم المشار إليه، وإنما لجأ إلى المواجهة العنيفة، ثم كانت العشرية السوداء المعروفة. ومع تزايد حدّة الصراع بين السلطة والقوى المشار إليها، ارتفعت نبرة التطرّف، ولجأت السلطات الحاكمة نفسها إلى التهديد بفزّاعة التطرف والإرهاب، وتجسّد ذلك في العمليات الإرهابية التي استهدفت المدنيين الجزائريين في الأرياف، وهي عملياتٌ ما زالت الشكوك تحوم حولها، وحول الجهات التي كانت وراءها. ويبدو أن السلطات الجزائرية تمكّنت من إقناع الدول المؤثرة في الوضع الجزائري بمزاعمها؛ أو أن هذه الأخيرة وجدت في الاستقرار الخادع الذي كانت توفره هذه الأنظمة ما يكفي لضمان مصالحها. ومع الوقت، تم الربط بين هذه الأنظمة العسكرية “الجمهورية” والعلمانية، وهي الأنظمة التي عملت على تسويق نفسها الضمانة التي تطمئن الجميع.

وقد أدّى هذا الوضع، وبناء على الدعاية المضادّة من الأحزاب الإسلاموية، إلى الربط بين العلمانية والإلحاد. ساعد في ذلك تسليط الضوء على بعض التجارب العلمانية المتطرّفة، سواء في تركيا أم في الاتحاد السوفييتي السابق، وحتى في فرنسا بهذه الصورة أو تلك. وفي المقابل، تم إهمال تجارب علمانية أخرى ناضجة (في الدول الاسكندنافية على سبيل المثال) تقوم على مفهوم حيادية الدولة تجاه مختلف المكوّنات الدينية والمذهبية والقومية وغيرها، وهو الأمر الذي لم تستسغه النزعات المتصارعة في منطقتنا، فأصحاب النزعة القومية يصرّون على الهوية القومية، بينما يشدّد أصحاب النزعة الإسلامية على الهوية الدينية الإسلامية. بل الطريف في الأمر أن الطرفين يعملان، في بعض الأحيان، على الدمج بين الهويتين، وذلك في إطار جهودهما التعبوية التجييشية الهادفة إلى كسب القطاعات الشعبية على مختلف المستويات.

ومع بدايات الربيع العربي، برز اعتقادٌ مفاده بأن المجتمعات العربية هي في طريقها إلى تجاوز تبعات الصراع العقيم المكْلِف بين السلطات العسكرية، حاملة لواء الأيديولوجية القوموية وأصحاب الأيديولوجية الإسلاموية، وتجلى ذلك في ظهور تياراتٍ وطنيةٍ تضع في مقدمة قائمة أولوياتها تأمين مستلزمات العيش الكريم للناس، وضمان مستقبل أفضل للأجيال المقبلة. ولكن سرعان ما تبدّد هذا الاعتقاد، وعدنا إلى مواجهة مفتوحة بين تلك السلطات المعنية وحركات الإسلام السياسي، ما أدّى بقوى كثيرة كانت تطالب بالتغيير إما إلى الانسحاب من الميدان، أو إعادة النظر في مواقفها واصطفافاتها، خصوصا في ظل واقع العجز عن تقديم البديل المقنع.

وما يحصل اليوم في تونس، وما حصل قبل ذلك في مصر، والصراعات غير المحسومة في سورية واليمن وليبيا، وحتى في السودان، ذلك كله يؤكد أن الاستقرار لن يتم تحقيقه في هذه البلدان، وفي المنطقة عموماً، من دون حواراتٍ وطنيةٍ حقيقية معمّقة، تشخّص المشكلات بدقة، وتضع الإطار العام لهويةٍ وطنيةٍ جامعة، لا تتنافى مع احترام الخصوصيات، والاعتراف بالحقوق المترتبة عليها. كما لن يتحقق الاستقرار المرجو من دون وجود مبادراتٍ جادّة يعمل أصحابها في سبيل وضع الحلول الواقعية لمعالجة تلك المشكلات، وبصورةٍ تطمئن الجميع. ومثل هذا الأمر، في حال إنجازه، سيفتح الآفاق أمام استقرار وطني في كل بلد، يكون أساساً لاستقرار إقليمي يتجلى في تعاون دول الإقليم في المجالات العلمية والاقتصادية والبيئية، وهذا ما سيمكّنها من مواجهة التحدّيات بموقفٍ مشتركٍ متماسكٍ لصالح الجميع.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى