في ذكرى مذبحة السارين

معن البياري

 

عندما تجول في بعض سورية، فيُريك أهلوها مشاهدَ باقيةً من التدمير المهول الذي اقترفه نظام الأسد الساقط، وعندما يحدّثك شهودٌ وعارفون عن فظاعات التمويت بالقصف المتنوّع الذي استهدف فيه ناساً في حاراتهم وبيوتهم، وقد كانوا في شؤونهم، فإن السؤال الذي غالباً ما سيلحُّ عليك سيتعلّق بالبواعث الذي جعلت أصحاب السلطة في ذلك النظام يقرّرون هذا المدى من النيران، وكان في وسعهم أن يُنجزوا أغراضهم السوداء بنيرانٍ أخفّ وقتلٍ أقلّ. وقد خاض في سؤالٍ كهذا، والذي تتناسل منه أسئلةٌ أخرى، باحثون ومعلّقون وأهل خبرةٍ في بنية نظام الاستبداد والفساد التي شيّدها حافظ الأسد وأقام عليها نجلُه الهارب. وليس من السذاجة، ولا البلاهة، أن يُستعاد السؤال في ذكرى مذبحة غوطتي دمشق، بقصف المدنيين فيهما بصواريخ تحتوي على غاز السارين، فأزهقت أرواح 1400  سوري وسورية، كثيرون منهم نساءٌ وأطفال: لماذا فعلها؟ إلى ماذا رمى في فجر ذلك اليوم، 21 أغسطس/ آب 2013، وهو يرمي “كمياتٍ كبيرةً من غاز السارين في هجومٍ خُطّط له جيّداً لاستهداف مناطق مأهولةٍ بالمدنيين، ما تسبّب في خسائر بشرية كبيرة”، على ما حسم، تالياً مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة؟ هل أراد نظام الابن تأديب السوريين، وإظهار العين الحمراء لهم، وإفهامهم إن لا خطوط حمراء لديه، كما صنع غير مرّة نظام الأب؟. إنهم يعرفون الصلافة البالغة التي يتّصف بها، وهو الذي كان لا يرى السوريين مواطنين أو رعايا، وإنما أُجراءَ في مزرعة آل الأسد، عليهم أن يمتثلوا وينصاعوا، وإلا فالسارين وغيرُه لمن “ينحرف” عن هذا الحال.
أحيا السوريون، وهم أحرارٌ من سلطة الأسد، ذكرى المقتلة الباهظة في فداحتها، الموصولة بمذابح بلا عددٍ قبلها وبعدَها. أحيوها، قبل أيام، لا ليستعيدوا فقط الألم الكثيف الذي أحدثه الأسد فيهم، وهو يسترخصُهم، وهو الرخيصُ من قبلُ ومن بعد، ويستسهل إعمال غاز السارين الخانق في أفرادٍ مدنيين منهم، كانوا نائمين فلم يُفيقوا، وإنما أيضاً ليُطمئنوا أنفسَهم على سلامة ذاكرتهم التي لا بدّ أن تكون جامعةً، موحِّدة، فذلك الألم في الغوطتيْن لا يخصّ أهلهما فقط، وإنما كل السوريين. وهذه الذاكرة مثقلةٌ بما لا عدّ لها من مذابح ونوبات قتلٍ وجولات قصفٍ وفتك، لم تتورّع مليشيات الأسد عن التفنّن في اقترافها. ولهذا، فإن واحدةً من مهمّاتٍ منتظرةٍ من الدولة السورية أن تنشئ متحف الذاكرة، ليضمّ كل أسماء الشهداء والمخطوفين والمغيّبين من ضحايا الأسديْن في خمسة عقود. وهذه مهمّةٌ عسيرةٌ، لن تقوى على إنجازها في مدّةٍ منظورةٍ سورية الراهنة، المُتعبة، والتي تتزاحم الأولويات قدّامها. تحتاج إلى شغلٍ طويلٍ يبادر إليه محترفون خبيرون، وتتوفّر له ميزانياتٌ كافية، ويشارك فيه المجتمع الأهلي السوري المتعدّد. وينطلق من رؤيةٍ تنظر إلى الماضي من دون مغادرة العيون المستقبل المشتهى لسورية المعافاة، العادلة، والتي يُؤخَذ فيها القصاصٌ من كل مرتكب جنايةٍ أو جريمةٍ أو جنحة. وليس من قوسيْن يُفتحان هنا، وليس من حاشيةٍ تنضاف، وإنما هم في المتن نفسه، الذين اقترفوا جرائم حربٍ معلومة، في زمن ما بعد الأسد وطُغمته، من المنتظر أن يُستعجل القصاصُ العادل فيهم، على تنوّعهم في هذه الضفة وتلك، فلولاً وقوى في السلطة في بلداتٍ ومدن في الساحل، وبدواً وعناصر أمن ودروزاً في السويداء.
والشديد الإلحاح، في هذه الغضون، أن يتوقّف بعض المغرمين بارتجال الكلام الفالت، عن مشابهاتٍ بين سلطة بشّار الأسد وأبيه والسلطة الانتقالية الراهنة (لا بأس من كلام عنها إنها سلطة أمر واقع)، وإجراء مماثلاتٍ بين مذبحة السارين في غوطتي دمشق وجرائم وقائع الساحل والسويداء. هذا تزيّد لا وجاهة فيه، يصدر عن انفعال، وعن أعراض نفسية ربما. والقول الفصل (نعم الفصل) أن سورية ما بعد الأسد تحتاج نقاشاً من غير هذا الكلام غير المسؤول، وتحتاج من يحمي ملايين الضحايا والمهجّرين والمنفيين والمغيّبين في غضون الأسد من النسيان والتناسي، وهذه التكبيراتُ في مآذن سورية في ذكرى مقتلة 21 أغسطس بادرةٌ طيّبةٌ في الخصوص… حمى الله سورية وشعبها.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى