الذكرى الثامنة لمجزرة داريا الأولى

مصطفى الولي

بكلمات قليلة سألخص لكم قصة الثورة في داريا على نظام الطاغية. كان المساعد، المرَفَع حديثا، من رتبة عريف في المخابرات الجوية، أشبه بحاكم عسكري للمدينة. لا يقيم شأنا للبلدية ورئيسها ولا للمجلس المحلي فيها. له مطلق الصلاحيات في رخص العمار والمخالفات، فيهدم عمارات بأكملها بالجرافات بحجة ” الكابل الرباعي” الخاص بالمخابرات الجوية، ومركزها في مطار المزة العسكري. يرسل عناصره للمطاعم ليأخذ وجبات كاملة دون ثمن، ويدخل الى كل محل تجاري، ويختار ما يريد، ويمضي دون دفع الثمن، ولا أحد يستطيع مواجهته، تجنبا لمصير مجهول.
في مواسم قطاف العنب والخيرات الأخرى، يرسل سيارات المخابرات ليملأها بالصناديق الموضبة للبيع، ولا أحد يعترض، ليكفوا شروره هو ومن هم أعلى منه، عنهم.
هذا المساعد يملك في ضيعته بقضاء بانياس بيتا مجهزا كالأثرياء، وفي بساتين الرازي له شقة فخمة. وفي الأرض الزراعية الواقعة بين داريا والمعضمية، ” طبَ” رجال الأمن والعسكر على مساحات أشادوا عليها بيوتا متواضعة، وجردوا أصحابها منها، وذلك بحجة أن تلك الأرض تشكل حرم المطار العسكري.
كان يعبر بسيارة اللاندروفر او الرانج وأحيانا على موتوسيكل، وينظر بعيون الناس شذرا. مستعرضا بعنجهية بالغة قدرته على التحكم بالناس وإرهابهم.
كان في داريا ضابطين برتبة عقيد وعميد من أبنائها، لم يكونوا قادرين على مواجهته أو وضع حد لغلوائه وغطرسته.
لم تكن داريا في بدء الاحتجاجات تحمل سوى الورود والماء المثلج، يوزعه المتظاهرون على الشرطة والجنود ورجال الأمن. وكانت مطالبها ” حرية وكرامة”. واغتالت أجهزة المخابرات خيرة شباب المظاهرات السلمية، وأبرزهم غياث مطر الذي أصبح رمزا في الثورة السورية.
حتى شعار” الله أكبر” لم يكن مستخدما في هتافات أبنائها، ولم يكن للمظاهرات أي طابع إسلامي” إرهابي” كما يحلو للنظام وعملائه اتهام الثورة بالإرهاب. ولم يعتدي المتظاهرون على السكان من أبناء الطائفة العلوية، رغم أن المساعد أبو علي ينتمي إلى تلك الطائفة.
بعد القتل الذي مارسه النظام، وقف أهل داريا في حيرة من أمرهم، فماذا يفعلون أمام القتل الوحشي للمدنيين؟ فبدأ الجنود المنشقون يذهبون إلى داريا حماية لأنفسهم، وبدأ بعض الأفراد بالسعي الفردي للسلاح، وراحوا يواجهون هجمات المخابرات والشبيحة برد بالنيران دفاعا عن المتظاهرين. وتداعت كرة العنف لتصل إلى نشوء فصائل مقاتلة.
وجرب وجهاء المدينة تجنيب البلد من الخطر والدماء. فعقدوا اتفاقا مع السلطة بدخول المدينة، شرط عدم ملاحقة المطلوبين بسبب التظاهر، والإفراج عن المعتقلين. فكانت المجزرة الأولى في آب 2012, في العيد. وراح ضحيتها حسب شهود عيان كانوا يعدون الجثامين خلال الدفن (1700). والأكيد أن جثامين بقيت في العراء داخل الكروم والبساتين. وفي أواخر الشهر التاسع بعد المجزرة، عادت فصائل الجيش الحر الى المدينة للدفاع عنها، وحاول النظام خداعهم مرة أخرى، فكان قرار الوجهاء والنشطاء والمقاتلين، برفض اي اتفاق لتجنب مجازر جديدة، وأصبحت داريا ومن جهاتها الأربع محررة من جلاوزة النظام. فطوقت المدينة وبدأت الهجمات الوحشية عليها بكل صنوف الأسلحة.
واستبسل ثوار داريا في الدفاع عنها, وفي إسناد المعضمية, وخلال أربع سنوات من الوحشية والهمجية لقوات النظام والشبيحة والطائفيون الشيعة من العراق ولبنان, صمدت داريا, وألحقت خسائر كبيرة بالمهاجمين من الرجال والمعدات, والقى الثوار القبض على عدد من الأسرى.
ويعرف البعض, أن الضابط الذي يريد أن يعاقب جنوده كان يهددهم بإرسالهم لجبهة داريا, حيث ينتظرهم الموت شبه المؤكد.
لم يكن ثوار داريا ” إرهابيون” ولم يكن فيها أجانب كما أشاع النظام, ولم تكن الخنادق والأنفاق والمتاريس من صنع” رجال حماس” كما ادعى النظام.
صمدوا بشكل أسطوري لأنهم يحملون راية الحرية, ونظموا أنفسهم, وأداروا شؤون الحياة في المدينة, بشكل دقيق على الصعد كافة. وبخروجهم المشرف ” انسحابهم” الى أماكن أخرى، بعد تأمين سلامة المدنيين، على مرارته ووجعه، غير أنه يعطي درسا في معنى النصر والهزيمة، فلم يهزم ثوار داريا، وستبقى تجربتهم نموذجا لجوهر الثورة السورية.
طوبى لداريا
المجد لأبطالها
الخلود لشهدائها.
والمستقبل لغياث مطر الثاني. ولحرية سورية والخزي لعصابة الطاغية.

المصدر: صفحة مصطفى الولي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى