تظهر بعض الدراسات منذ فترة والمختصة بتطور أو تراجع اقتصاد بعض الدول وخاصة التي تحكمها دكتاتوريات أنها لا تسأل مطلقا عما نسميه بالاقتصاد الاجتماعي والذي يتمحور نشاطه على تطوير المجتمع وخلق بنية اجتماعية متماسكة، بل بالعكس نراها بطريقة أو أخرى تشارك بنشاطات اقتصاد الظل.
اقتصاد الظل هو نوع من النشاط الاقتصادي غير المنظم الذي لا يدخل ضمن الخطط الحكومية ولا ضمن حسابات الناتج، هو اقتصاد الأقبية والأسطح نراه منتشراً انتشار سرطاني ينتج على الأغلب سلعاً تباع بأسعار زهيدة مما يؤثر على الاقتصاد والناتج الوطني وعلى جودة المنتج الوطني وسمعته وبلا شك لا يتوقف عند هذا الحد من الحجم بل سنرى إلى أي حدود تغلغل بالاقتصاد الوطني.
بهذه الكلمات البسيطة عرفنا كلمة الظل، ولكن المهم هو كيف ينشأ ولماذا ينشأ ومن ورائه ولماذا لا تقف الدولة بوجهه كونه يعتبر مرض عضال يأكل بنيان المجتمعات وثرواته الوطنية ،وبالحقيقية تكمن هنا المشكلة الحقيقية لهذا الاقتصاد ، الذي تتبناه الدول التي يقودها نظام دكتاتوري بامتياز كما هو الحال في سورية ،ولكي لا اخرج عن نطاق تنظيم الاسد ودوره بالموضوع سأتابع بشكل مستمر عبر الاقتصاد بسورية ، ولكي نفهم دور تنظيم الاسد بهذا الميدان سنتعرف عن المسببات الاساسية لنشوء هذا الاقتصاد :
أسباب وجوده في سوريا:
إن من أهم أسباب انتشار هذا الاقتصاد هو تراجع دور الدولة بالشكل العلمي المطلوب، بل بالعكس تمركز نشاطه على مساندة نشاطات تعمل بعيدة عن الانظمة السارية للدولة لتخلق لنفسها منظومة ادارية خاصة بها وتتبع بالشكل العام الى رجالات تدور بفلك النظام أو بأجهزته الامنية، وسوف نرى لاحقا كيف تنشأ هذه الفعاليات إن كانت صناعية أو تجارية وحتى خدمية دون العبور نهائيا بقنوات الدولة الكلاسيكية.
لسنا بصدد انشاء دراسة اقتصادية عن الاقتصاد السوري لأننا نعلم أنه اليوم لا اقتصاد بسوريا والذي حل محله اقتصاد الظل ، بقدر ما نحن بهدف معرفة كيف نشأ اقتصاد الظل , يشكل هذا الاقتصاد حاليا من نشاط سورية 70% وفقاً لتقرير صادر عن مواقع اعلامية موالية للنظام حيث لا يمر ولا تعرف عن سيره الدولة ، أيعقل ؟؟ كوننا نعرف أن الدولة تعرف الذبابة الداخلة لسوريا إذا كانت ذكر أو أنثى أم أن للدولة رضى بذلك ليكون لها دور غير مباشر بالسيطرة أيضا عليه عبر من يقوم على هذا النشاط بالشكل العام .
كلنا يعلم أن النظام اعتمد على مجموعة من الرجال تدور بفلكه وتسانده وتعمل بالوقت ذاته لصالحه ، هذه الزمرة من الرجال تمتلك صلاحيات تمنحها حق التجاوزات القانونية وفتح الأبواب المغلقة قانونا ، منها إدخال بضائع وآليات ومواد استهلاكية دون اي ضريبة او ترسيم لتعرض بالسوق بأسعار منافسة ، مما دفع البعض على انشاء فعاليات صناعية صغيرة أيضا دون أن تخضع الى الانظمة القانونية الاعتيادية ولا حتى الرقابة على الجودة أو السلامة للمواطن ، بالتدريج كبرت هذه الشبكة وترعرعت لتصبح من الفعاليات الاساسية للمواطن التي تدور بفلك النظام الاسدي ،ولكي نستطيع تصور الامور بشكل واقعي والكل يعرف الكثير عن تلك الفعاليات ، سأبدئ بأصغرها بالتدريج ولنعرف من جراء ذلك الاسباب حيث كلنا يذكر جيدا ( البراكات التي تتواجد بزوايا الحارات والشوارع ) ، وكلنا تعامل معها بشراء بضائع وسلع ولوازم اغلبها مهربة ، والبعض كان مختص بحبوب المخدرات ، لنبحث كيف يحصل هذا الانسان على الترخيص من البلدية أو التموين ، بالشكل العام هؤلاء الاشخاص تعمل لصالح الأجهزة الأمنية أو ضباط أمن وفق المنطقة والضرورة ، مهمتها مراقبة كل حركة وكل شخص مشتبه به بالحارة ، لذلك يتبين لنا أن كل واردات هذه البراكات لا تخضع الى أي ضريبة أو مخالفة أو احتجاج كونها مدعومة من فرع أمن أو ضابط أمن ، ويمكننا بالتدريج الارتقاء من هذه المهنة إلى مهن أخرى كالمطاعم والمقاهي حتى نصل الى شركات قائمة بالظل نشاطها استيراد وتصدير وأغلبها شركات وهمية مسجلة بأسماء متوفين أو لا قيد مدني فعلي لهم ، وهذا يعني أنها لا تشارك بالعربة الاقتصادية من ضرائب الى رسوم الى تأمينات اجتماعية وغيره ، وتنزل الى الاسواق بضائع لا يمكن اخضاعها الى اي رقابة تموينية ، او معايير للجودة والسلامة الصحية ، وكون السوق متعطش يمتص كل شئ وخاصة إذا الاسعار منافسة للمنتج المحلي او حتى المستورد النظامي فيتم تصريفه بسرعة هائلة ، وتستمر هذه الشركات أو الفعاليات تستفيد من كل خدمات الدولة وبشتى أنواعها ، و لا أريد الدخول بنشاط الاتجار بالمخدرات على النطاق الواسع متعدياً الحدود السورية وما يسببه من سوء سمعة للسوري ككل بالمجتمع الدولي ويخضعه لرقابة بكل تحركاته .
سمح النظام لهذا النشاط لكي يعطي الفرصة لرجالاته الإثراء السريع وبالوقت ذاته التمكن منهم حيث في اي وقت يستطيع اخراج اضابيرهم وتثبيت التهم بحقهم واحالتهم للقضاء على انهم مخربين للاقتصاد الوطني (كما فعل مؤخرا مع البعض منهم)، وهذا في حال خروجهم عن بيت الطاعة أو عدم تسديد ما يتوجب دفعه لمن يشرف عليهم او يساندهم.
إذا ارتقينا الى مستوى أكبر سنجد أن أكبر تعهدات البناء والابنية التي تنبت هنا وهناك دون أي ترخيص أو رقابة هندسية علمية يملكها شخصيات تابعة بطريقة أو أخرى لمنظومة الفساد التي استطاع النظام تثبيت اساساتها عبر الأجهزة الأمنية وباقي الاجهزة للدولة من رقابة مالية الى جمارك منتهيا بالتراخيص الاقتصادية والهندسية الوهمية.
أين تصب الاضرار بالشكل العام من هكذا اقتصاد؟ لأنه إذا قمنا بعملية جرد كامل لهذه المنظومة الابداعية، سنجد مصانع وورشات صغيرة تنتج سلع وتباع بالأسواق، سنجد معامل اغذية بالأقبية، سنجد ورشات خياطة ومعامل بمعنى الكلمة للألبسة، سنجد شبكات مختصة بالنقل والتصدير والتهريب، وكلها لا تخضع لأي رسوم، أليس هذا كافي ليشكل عجز بالناتج المحلي ، أليس هذا كافي ليضرب السلعة وجودتها المنتجة بالشكل النظامي ؟؟؟.
أما من الجهة الاجتماعية، تستقطب اصحاب هذه الفعاليات أيدي عاملة رخيصة الثمن وغير مؤهلة بسبب البطالة القاتلة للأهالي، تبقى تعمل بالظل دون أي حقوق صحية أو اجتماعية، تستقطب عمالة قاصرة وبذلك تحقق أقل كلفة، وبذلك يتبين لنا أن كل هذه العمالة لا تخضع الى أي تطوير أو تدريب مهني بمعنى الكلمة، مما خلق بالمجتمع عمالة متدنية لينعكس بدوره على المنتج العام للسلع المستهلة بالسوق المحلية.
خلقت هذه السياسة بسورية اقتصاد يعمل وينشط يوما بعد يوم، كون النظام لا يرغب في الوقوف بوجهه كونه وسيلة للتحكم بالمجتمع ككل وبموجبه تستطيع السيطرة على أكثر الفعاليات وبشتى تنوعاتها، وبالوقت ذاته خلق طبقة مخلصة له وقادرة على الوقوف بجانبه بالأوقات الحرجة مهما كان نوعها، كتجار الصرافة وشركات المعاملات والحوالات المالية، التي بكلمة يجبرها على تخفيض ورفع اسعار العملات وفق ما يحتاجونه وما تفرضه عليهم الظروف أو تتم عملية اقتحامهم لمكاتبهم ومصادرة الأموال واعتقالهم بتهم اقتصادية لا نهاية لها.
لننظر الى حالات اضخم مما تحدثنا عنه، مثلاً شبكة رامي مخلوف وأولها الهاتف المحمول والاسواق الحرة التي لا أحد يعلم فعليا الكلفة ولا الداخل والصادر، وكيف يجبر المصرف المركزي على تغطية فواتيره كلها بالقطع الاجنبي واخراج تلك الاموال خارج الوطن ومازلنا نذكر الاشكالات التي حدثت بين رأس النظام ورامي مخلوف الذي يمثل شبكة كبيرة لاقتصاد الظل والهجمة على كل فعالياته ومصادرتها لصالح من لا نعلم ، أليس هذا اقتصاد ظل ؟؟ .