
كنا نسمّي حزب الله “دويلةً” قائمةً بذاتها في وجه الدولة اللبنانية. دويلة متغلغلة في مؤسّسات الدولة، ثمّ حصلت حرب “إسناد” غزّة (2023) بقواعد اشتباك محدَّدة. بعد أشهر، تفلّتت إسرائيل من هذه القواعد، وألحقت هزيمةً بحزب الله. والنتيجة أن إسرائيل أعادت احتلال الأراضي الجنوبية التي حرّرها حزب الله عام 2000، وربّما أكثر منها، وصوَّبت نيرانها على ما هو أبعد منها. فيما قطاع غزّة لم يُنقَذ، إنما غرق بدماء أهله. في نهاية هذه الحرب، اقتصر اتفاق وقف النار بين الحزب وإسرائيل على الحزب دون إسرائيل. من وقتها تغتال إسرائيل يومياً، وبانتظام، عضواً أو كادراً أو مسؤولاً في الحزب، من دون أن يكون في طريقه إلى القيام بعملية انتحارية.
انتهى زمن دويلة حزب الله، وباتت الدولة صمّام الأمان الوحيد (والنسبي) في وجه الفوضى العارمة الناجمة من هزيمته. الحكومة اللبنانية هي بهذا الصدد بالذات. رئيسا الجمهورية والحكومة الجديدان قدِمَا على هذا الأساس. كلّ كلامهما عن دولة تحتكر السلاح وتقرّر الحرب والسلم. وهذا يعني أن الدولة بصدد إنهاء وجود الدويلة، أي حزب الله، وثمّة تقدير يقول إن غالبية اللبنانيين يرتاحون لهذا التوجّه. وبما أن الموضوع في لبنان يُقاس بالطوائف، فإن “المُكوِّن” الشيعي (بيئة حزب الله) ما زال متمسّكاً بالدويلة، يسانده ممثّلها الأعلى في الدولة اللبنانية، رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي يبدو كأنّه يمشي على حبل دقيق بين الدولة والدويلة، مستخدماً مهاراته العالية، في الهندسة والتدوير. وهذه أسهل معضلات استعادة الدولة نفسها، أي أن تجد في داخلها من يبرع بلعبة “الكشاتبين” الشعبية، وهي لعبة تسير في دماء اللبنانيين، تساعدهم في ترويض شياطينهم.
كيف نحمي الشيعة طائفةً بعد هزيمة حزبهم القائد، في دولةٍ الطوائفُ بوصلتها؟
والدولة التي يُراد لها أن تعود، لم يكن في وسعنا، بقدراتنا الذاتية الخاصّة الوطنية، أن نستعيدها من مخالب الدويلة، وما تسبّبتْ به الأخيرة من حروبٍ وانهيارات. احتاج الموضوع إلى تدخّل دولي تمثّل بالأميركيين والسعوديين. ولكن أيضاً، الدويلة التي نحن بصددها منتج إيراني. العلاقة بين حزب الله وإيران عضوية. رايات إيران تزيّن درّاجات أنصار الحزب، ولسانه ينطق بها. وإيران، في المواقف الأخيرة، من مرشدها إلى مستشاره إلى وزير الخارجية، جميعهم ضدّ “نزع سلاح حزب الله”، وهم لم يقدّموا أيّ ضماناتٍ على “التزامهم” هذا، مثلما لم ينقذوا حزب الله من حربه أخيراً ضدّ إسرائيل. أميركا تريد سحب سلاح الحزب، ولا تقدّم، هي الأخرى، ضمانات انسحاب إسرائيل من النقاط التي تحتّلها، ولا توضّح نوعية الاتفاقات المقبلة. بل أكثر من ذلك، توقّفت أخيراً عن تمويل قوات حفظ السلام الدولية، فلبّت بذلك طلباً إسرائيليا قديماً، فيما رئيسها ترامب بصدد هدم مؤسّسات الدولة الأميركية، في “ثورة مضادّة” غير مسبوقة ضدّ هذه الدولة. فما بالك بـ”دولتنا”! أمّا إيران، بعد الضربات الإسرائيلية والأميركية عليها، فلا يحمل نظامها غير همّ واحد: كيف يحمي نفسه؟ وقد وجده من طريق إحياء القومية الفارسية والتحشيد لها. وأيضاً في حملته على “الجواسيس”، مطاردة الجواسيس والمعارضين لتختلط دماء الاثنين في أحبال المشانق.
ماذا نفعل في هذه الحالة؟ ننضمّ إلى المعسكر الذي دفعت به الإمبريالية الأميركية، أو ذاك الذي تغذّيه القومية الفارسية المتجدّدة؟ وإذا انضممنا إلى الأخير، ما هو مستقبلنا غير حرب دائمة؟ نرفض الأول (الأميركي) لأنه إمبريالي، ولأنه لا يريد أن يعطينا ضماناتٍ لانسحاب إسرائيل بعد إنجاز سحب سلاح الدويلة؟ أم نلاقيه في طريقه، لعلّ وعسى… ولكن بكلّ قوتنا وشوقنا إلى دولة؟ وإذا صحّ هذا الخيار، مع كلّ الوعي بأنه يلاقي الأميركي، فما هي الطرق التي تحمينا من لحظات لا تعود فيها مصلحة هذا الأميركي تلاقي مصلحتنا الوطنية، مثل أن يبقى جيشنا (جيش الدولة) محروماً من الدعم الذي يسمح له بحمايتنا من إسرائيل؟ أو أن نتّكل على الدبلوماسية فقط؟ أو أن نُصاب بعدوى هدم المؤسّسات الأميركية الترامبية؟
الدولة التي يُراد لها أن تعود، لم يكن في وسعنا، بقدراتنا الذاتية الخاصّة الوطنية، أن نستعيدها من مخالب الدويلة
النقطة الأخيرة لا تقلّ ضبابيةً… خلال العقود الماضية، كانت تحكم البلاد طبقةٌ متعدّدةُ الطوائف، يتحكّم حزب الله في مفاصلها ويقرّر عنها الحرب والسلم. هذه الطبقة تتمثّل في حلفاء و”خصوم” ونواب وزعماءِ أحزاب، وفي كبار وصغار وجهاء الدولة… ينتمون إلى الطوائف كلّها. فكان “تعايشاً” بين الدولة والدويلة لن تجد له مثيلاً في أي بلد آخر: المصالح والخيوط فيه معقّدة ومتداخلة، فاغتنت هذه الطبقة واستقوت وتعزّزت قواعدها، وبنت صروحاً من الفساد.
ولكن الآن سقط حزب الله، وتخلّى عنه أصدقاؤه وحلفاؤه، والمستفيدون من خدماته. تصوَّر هذا النسيج العميق والمتشعّب، تُخلع قطعة أساسية منه، ويبقى هو على حاله كأن شيئاً لم يكن. كأن الرأس الذي تحكّم به لم يسقط. كيف يعيش هذا النسيج وهو مبتور؟ كيف يستعيد الدولة؟ كيف يحكم؟ أي رأس مطلوب أن يديره؟ كيف يفكّ ألغاز مرحلة التعايش بين الدولة والدويلة؟ كيف يفصل بين التواطؤات التي بُنيت عليه؟ والسؤال الذي سيُجتنَب: كانت البنية الطائفية القاعدة التي بنى عليها حزب الله كيانه، فهل تبقى وتسير إلى ما لا نهاية تغالي باسم طوائف مهزومة، أو تثأر باسم طوائف منتصرة؟ بكلام آخر: كيف نحمي الآن الشيعة طائفةً بعد هزيمة حزبهم القائد، في دولة ما زالت الطوائف بوصلتها كما كانت أيام دويلتها؟ كيف نحميهم، جسدياً ومعنوياً؟
المصدر: العربي الجديد