عندما يدخل متجرك أو منزلك عناصر (وسماسرة) المكاتب العقارية التي تعمل لصالح إيران في دمشق، فأنت أمام أحد خيارين: إما أن تبيع أو تتعرّض ممتلكاتك للحرق. تلك حالة الدمشقيين منذ عشرة أعوام على الأقل، القابض على أملاكه والرافض البيع كالقابض على جمرة.
اشتهرت دمشق بأنها أقدم عاصمة مأهولة بالتاريخ بأسواقها وبيوتها التاريخية، وهناك عشرات الأسواق التي يزيد عمرها عن ألف عام، وكذلك بيوتها التي تعبق فيها رائحة أزهار الياسمين والورد الدمشقيين، ونافورة الماء في ساحات بيوتها. ولا يحبّذ الدمشقي البيع، ومحلات تجارية قديمة كثيرة قد لا تدرّ لمالكيها الريوع المالية الكافية، لكنّ رمزيتها تكفيهم وتبقيهم متمسّكين بتلك العقارات.
في دمشق مقامات دينية كثيرة، منها ما يتبع للمذهب الشيعي، كمقامات السيدة زينب وسكينة ورقية وحجر بن عدي وغيرها. وعلى مر السنين، كانت موضع احترام وتقدير من كلّ السوريين، لكنّ إيران وحزب الله، بعد ثورة السوريين عام 2011 جعلا شعار حماية المراقد الشيعية الهدف الذي يتيح لهم إدخال عشرات آلاف المرتزقة إلى سورية.
قال الإيراني مهدي طائب المقرّب من المرشد الإيراني علي خامنئي، إنّ سورية هي المحافظة الـ35 لإيران. وذهب إلى أبعد من ذلك، فذكر أنّ سورية أهم من إقليم الأحواز العربي المحتل. وهذا يفسر الحملة الشنيعة التي تُشنّ على مدينة دمشق ولسببين: الأول، العمل على ترسيخ مبدأ جعل سورية محافظة إيرانية عبر شراء العقارات وعبر حركة التشييع التي نشطت بشكل فظيع في الآونة الأخيرة عبر كلّ المليشيات الإيرانية في سورية، والتي زادت عن مائة ألف مقاتل، والثاني عبر محو أموية دمشق التي تعكّر مزاج ولاية الفقيه، فالتاريخ الأموي مقلق ومزعج لنظام الحكم في طهران، ويجب التخلص من كلّ تلك الرموز الأموية ورفع وشاح أمية عن جبين دمشق.
تعرّضت خلال السنوات الماضية أشهر أسواق دمشق لحرائق، نُسب معظمها إلى ماسّات كهربائية، وهو سبب خبره السوريون قبل كل تفتيش على شركة منهوبة أو جرد في مستودعات عامة مسروقة، أن يكون هناك حريق بماسّ كهربائي يمحو آثار السرقات وما تم اختلاسه من مستودعات الدولة على يد القائمين عليها. وقد التهمت الحرائق أخيراً في دمشق القديمة كثيراً من محلات وبيوت سوقي العصرونية وساروجة، وأسواق الحميدية وباب الجابية والبزورية وسوق العتيق وسوق الصوف وسوق مدحت باشا وسوق الحريقة. وللمصادفة، كانت كل تلك الحرائق بعد رفض أصحاب المحلات عروض بيعها لمكاتب إيران العقارية في دمشق. والمصادفة أيضاً أن معظم تلك الحرائق تمدّدت، والتهمت محلاتٍ كثيرة، بعد أن غُيّبت أفواج الإطفاء عن الحضور أو حضرت بعد فوات الأوان، وحججها وذرائعها نفسها ومكرّرة، إما تعذّر وصول عربات الإطفاء إلى مكان الحريق بسبب ضيق أزقة تلك الأسواق (وكأن فوهات الحريق الثابتة المعتمدة في معظم الدول اختراع غاب عن هؤلاء)، أو انشغالهم بحرائق وهمية مفتعلة بشكل مقصود في أماكن أخرى. ويعلم القاصي والداني تماماً أن تلك الحرائق تتم بفعل إيراني وبعلم جهات أمنية مختصّة ومعرفتها وتنسيقها. والأدهى أنه حتى لو حضرت أفواج الإطفاء فهي غير مهنية وغير مدرّبة على إطفاء الحرائق في مناطق أثرية. وليس مستغرباً أن تُشاهد عناصر الإطفاء مثلاً يوجّهون خراطيم الماء ذات الضغط العالي جداً على جدران الأبنية والمحلات الأثرية، ذات الجدران الطينية والضعيفة بحكم قدمها وعمرها الطويل، فتتسبّب بتدميرها وتهدمها.
حملة التغيير الديمغرافي عبر الحرائق المفتعلة وسواها جعلت من بلدة السيدة زينب خالصة لطائفة واحدة تتبع لإيران، وجعلت من مدينة داريا شبه بلدة إيرانية، بعد أن استوطن فيها مرتزقة مليشيا زينبيون الباكستانية ومرتزقة مليشيا فاطميون الشيشانية، بعد أن اكتسب معظم هؤلاء الجنسية السورية بأمر من السلطات العليا. يُضاف ذلك إلى كل المناطق المحيطة بالمسجد الأموي ومقام السيدة رقية التي أٌجبر سكانها على بيع عقاراتهم أو التهديد بحرقها. وبغياب أي سلطة أمنية يمكن أن تحمي أملاك المواطنين، اضطر معظم الملاك لبيعها، خوفاً من انتقامات أكبر قد تزيد عن الحرائق. أما المحلات التي حُرقت في أسواق المناخلية والعصرونية والبزورية وسواها، فمصيرها البيع الحتمي لإيران، لأن إعادة ترميمها شبه مستحيلة في ظل أوضاع اقتصادية شعبية متردّية، وحتى إن رُمّمت فقد تلقى مصيرها السابق بحريق آخر يُنسب لماسّ كهربائي آخر.
لا تتمثل الجريمة الكبرى التي ترتكب عبر تلك الحرائق فقط بتغيير ديمغرافي مقيت، يتلاعب بالتركيبة العقارية والسكّانية السورية، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، عندما يهدف إلى تغييب تاريخ دمشق وسورية وتدميره، عبر حرق وثائق تاريخية، فالحريق الذي وقع في الشهر الماضي (يوليو/ تموز) في سوق ساروجة الدمشقي المجاور لمراقد شيعية، كالسيدة رقية ومشهد الحسين، وطاول أطراف حي العمارة الأثري، كان جريمة كبرى، فـالسوق يعدّ متحف دمشق الصغير من ضمن متحف دمشق القديمة الأكبر. كان يضم السفارات والقنصليات والقصور الفخمة، وتسكنه الشخصيات الرفيعة في العهد العثماني. يصنّف هذا الحريق تحت عنوان جريمة تاريخية عظمى بحق دمشق والذاكرة الإنسانية. وتتحدّث معلومات كشف عنها مختصون عن احتراق قصري خالد العظم وأمير الحاج اللذيْن يعتبران من التراث العالمي فضلاً عن كونهما إرثاً يعبر عن عراقة مدينة دمشق, وتوجد بين جدران تلك القصور مخزونات ثقافية وتاريخية، وسلالات أشراف دمشق، ووثائق النفوس العثمانية، ومخطوطات وكتب نادرة. وقد التهم الحريق مركز الوثائق التاريخية الذي يضم أكثر من خمسة ملايين وثيقة تاريخية تعود إلى العهد العثماني، وتشمل السجلات العقارية وقيد النفوس المدنية للدمشقيين، مع كم كبير من سجلات قضائية ومعاملات إدارية مثبتة بالاسم الرباعي، كما درجت العادة والعرف حينها. ويعني هذا أن فقدان تلك الوثائق لا يهدّد أصول الملكيات العقارية، بل والتركيبة الديمغرافية لدمشق أيضاً. والأخطر من ذلك أن كل العقارات التي تُصنّف وقفا إسلاميا منذ العهد العثماني، وتقع تحت حماية الدولة، أصبح معظمها مشاعاً من دون توثيق ومن دون قيود ومن دون سجلات عقارية. ويتيح هذا الأمر للسلطات بيعها ومنحها لإيران بدلاً عن ديون مستحقّة على سورية كما تطالب إيران. وكانت تلك السجلات تشكّل مرجعاً للعائلات الدمشقية، والحفاظ عليها من التلاعب خلال العقود الماضية، وشكلت عثرة أمام محاولات عدّة للتلاعب بتاريخ دمشق وعائلاتها أو بيعها، فكيف تٌرك هذا الكنز من دون رقابة ومن دون حماية ومن دون أرشيف احتياطي يحميه من العبث والضياع، كما درجت العادة في كل الدول التي تعمل وتحرص على الحفاظ على وثائقها وتاريخها وكنوز ماضيها، وليس تركها كما حصل في دمشق وبشكل مقصود عرضة للنهب والحرائق والضياع، وتلك جريمة متعمّدة تقضي بتغييب تاريخ دمشق وتاريخ سورية، عبر ما حصل أيضاً في أسواق حلب القديمة وأسواق حمص القديمة، خدمة لأجندات سياسية تحاول العبث بديمغرافيا دمشق أولاً، والتركيبة الديمغرافية السورية كلها.
المصدر: العربي الجديد