
لم يتكشّف بعدُ هول الفظائع التي مورست في السويداء. ومعرفة الحصيلة النهائية الشاملة مؤجَّلة على الأٌقل حتى توضع نقطة النهاية، فلا تحدث انتهاكات للهدنة الهشّة السارية. وبعد ذلك يجب أن تعود الحياة إلى طبيعتها، كي تتسنى بدقة معرفة عدد الضحايا والمفقودين والخسائر في الأرواح والممتلكات.
مع بدء ورود الأخبار عن الأهوال التي ارتُكبت، عاد التذكير بضحايا المقتلة الأسدية. ولا يُعرف على أي رقم ستستقر هذه المرويات، فآخر ما راح يُذكَر هو مليون ونصف مليون قتيل، يُقصد بهم ضحايا طرف واحد، وتحديداً الضحايا من السُنّة وفق هذا التصنيف. استذكار الأرقام على النحو نفسه لا يحدث فقط ربطاً بالمجازر الحالية، فقد حدث من قبل ربطاً بمجازر الساحل، والأمر أبعد من منشور هنا أوهناك على وسائل التواصل.
من حيث الشكل، سيبدو الطرح محقّاً تماماً إذا قورن مقتل ألفي شخص بمئتي ألف مثلاً، فكفّة المظلومية راجحة للرقم الثاني منهما، وعلى المتظلّمين من الرقم الأول الصغير أن يصمتوا احتراماً للمظلومية الأكبر. لا يفيد على هذا الصعيد القول: إن مقتل إنسان بريء هو، من حيث المبدأ، كأنه قتل للإنسانية جمعاء. فالمظلوميات أشدّ تعقيداً من التوقّف عند التظلّم الإنساني، إنه بالأحرى عدّتها السياسية في المقام الأول.
أيضاً، الوقائع قد لا تكون مهمة في صراع المظلومية لإثبات أحقّيتها على مظلوميات “منافسة”؛ الأهم هي الوقائع كما تُستعاد، لا كما حدثت بالفعل. رأينا مثلاً أيام مجازر الساحل كيف انتفض كثر غاضبين بسبب الاهتمام بصورة طفل قتيل، أكثر من الاهتمام بنظراء له قُتلوا أيام الأسد. وهو زعم يتجاهل كلياً تحوّل صورة الطفل حمزة الخطيب إلى أيقونة، جاب بها أنصار الثورة العالمَ كله للبرهنة على وحشية نظام الأسد.
حمزة الخطيب كان واحداً من مئات الأيقونات التي استُحضرت خلال السنوات الماضية، ومنها أيضاً أيقونة غياث مطر. لنصل إلى أيقونة القاشوش التي لم نشهد تراجعاً عنها يوازي ما كان لجهة ترويجها، فقد صار معلوماً منذ سنوات (وعلى نطاق واسع) أن وجود القاشوش ومقتله هما تلفيق، وأن الجثة هي لشخص آخر بقيت هويته بلا إعلان! ما هو مهمّ في أمثولة القاشوش أن التلفيق والكذب إذا حدثا، وهما يحدثان دائماً، يجب ألا ينالا من حقوق الضحايا، ولا من عدالة أية قضية أو أي مطلب.
هل الدم الدرزي أغلى من السنّي، كي تحدث هذه الضجة لمقتل عدد من الدروز لا يناهز نظراءهم من السنّة؟ هذا السؤال الذي طُرِحَ صراحةً، أو مداورة، ليحمل في طيّاته الإجابة التي يريدها أصحابه؛ أي اتهام الآخرين بتفضيل دمٍ على دم. السؤال، الذي يزعم البراءة والتجرّد، يُطرَح أُثناء حدوث مجزرة؛ أي إن استحضاره غير مجرّد عمّا يحدث. هذه المقارنة لا تحدث بعد مئة سنة على انقضاء المجازر، ولا يستخدمها مؤرّخون مستقبليون بل أشخاص يتابعون الدم الطازج الساخن بتقنيات الفيديو.
لكن، رغم كل ذلك، نستطيع القول إن لدم الأبرياء، من العلَويين أو الدروز، الذي أُهرق مكانةً مختلفةً عن الدماء التي أهرقت قبل الثامن من ديسمبر الماضي. للتأكيد؛ مكانة مختلفة، لا أفضل ولا أقل. هنا مفاضلة من نوع آخر، مفادها وجود قناعة لدى سوريين كثر بأن سقوط الأسد يعني سقوط نظام المجازر. هي قناعة غير مبنية على رومانسية ما إزاء التغيير، وأصحابها يلحظون تعقيدات الوضع الأمني والآثار المريرة للحقبة الفائتة. إلا أنهم كانوا يتمنون أن ينقضي عهد نظام المجازر تحديداً، فلا تكون الانتهاكات مَرعيّة من قبل السلطة.
يرفض أنصار السلطة أية مقارنة لها بما قبلها، والسوريون بمعظمهم لم يكونوا يتمنون أن تحضر المقارنة بأي شكل كان. المفارقة أن الذين يرفضون المقارنة هم الذين يستحضرونها عبر المقارنة بين عدد الضحايا، والخوض فيما يرونه تفضيلاً لدم على دم. في حالتهم، يلزم قليل جداً من الحصافة ليتخذوا هم الموقف الذي يتهمون الآخرين به، فيُعلون من شأن أية نقطة تُراق اليوم كي لا تُقارن السلطة الحالية بسلطة الأمس.
في المقارنة أيضاً، كان منتَظراً دائماً من الأسد أن يرتكب الفظائع، وبهذا المعنى كان ثمة تهيّؤ مسبق للوحشية التي ستصدر. في لحظات الاختبار، لم يُخيِّب الأسد الظنّ، فأفلتَ وحوشه الذين فتكوا بمئات الآلاف من الضحايا. الظن الشائع، على نطاق واسع أيضاً، كان أن أي بديل لن يكون على شاكلته، وأن الخلاص منه يعني الخلاص من الأسوأ. لذا، كانت هناك خيبة على نطاق واسع، تحديداً لدى الذين كان لديهم تطلُّع إلى طيّ صفحة الماضي، حتى إذا كان معظمهم لا يتفق في الأصل مع أيديولوجيا السلطة الجديدة.
في العمق، كان العشَم بالسلطة من المختلفين معها أكبر مما لدى أبناء بيئتها الأيديولوجية أو الطائفية! والواقع أن هذا هو دأب الأخيرين على كل الأصعدة، لا على صعيد المجازر الطائفية فحسب. فقد صار شائعاً مواجهة أي نقد يُوجَّه إلى السلطة بما كان الحال عليه أيام الأسد، وهو ما يعني مقارنة السلطة بالأسوأ؛ بالذي كانوا هم أنفسهم قبل شهور يرونه شيطاناً مطلقاً ولا يزالون كذلك، من دون انتباه إلى أن مقارنة أية جهة بالشيطان لا تعطيها ميزة أو قيمة. وفيما مضى لم يكن السوريون يقارنون سلطة الأسد بسلطات قمعية هنا أو هناك، لم يكن هذا معيارهم؛ كان معيار المفاضلة ما هو متقدّم على صعيد الحريات وكرامة المواطن الحقوقية والمعيشية عموماً.
الانتقال من المقارنة بالأفضل إلى المقارنة بالأسوأ ليس علامة على المضي في الاتجاه الصحيح، وأغلب الظن أنه حتى الآن علامة على المراوحة في المكان، خصوصاً بما يتعلق بقيمة الدم السوري. الاستهانة الصريحة المباشرة، أو المواربة، بأية مقتلة جديدة، واحدة من علامات البقاء في الزمن الأسدي. التظلُّم النبيل لا يبرر ذلك؛ هي المظلوميات، عبر التاريخ، التي لطالما كانت أرضاً خصبة لصناعة مظلوميات جديدة، ولدينا عبَرٌ لا تُحصى على تحوّل المظلومية إلى سوط .
ما تقوله لنا التجارب المعروفة أن المظالم تتعافى بتطبيق العدالة؛ العدالة الانتقالية المنشودة في الحالة السورية. أما المظلوميات الجشعة إلى التسلط والدم فهي لا تتعافى، ولا يروي غليلَ أصحابها المزيدُ من الدم. لا مصادفة في أن يطلّ هذا النذير مع البقاء في الزمن الأسدي، عبر الإصرار على المقارنة به. واليوم، إذ بدأ كثر يأخذون على السلطة الانتقالية تصرّفها بوصفها سلطةً دائمة، ففي هذا أيضاً نذير مزدوج؛ أوله أن دوام السلطة من ملامح العهد الأسدي، وثانيه أن السلطة الانتقالية عندما تتصرف على أنها دائمة تتجاوز على المعنى الانتقالي الحقيقي الذي تحتاجه سوريا.
المصدر: المدن