عن حاجة سوريا للأطر السياسية

حسن النيفي

جسّدت الريبة من العمل الحزبي ظاهرة واضحة المعالم في سوريا على مدى عقودٍ مضت، سواءٌ من جهة السلطات الحاكمة أو من الجمهور العام.
ولئن كان من الميسور فهمُ دوافعِ السلطة لاستبعاد أي نشاط حزبي، كونه يندرج في سياق سعي نظام الحكم لمصادرة السياسة من المجتمع واحتكارها بيد السلطة فحسب، إلا أن هذا المسعى الطارد لممارسة السياسة انتقل إلى الوسط الشعبي، الذي بدا – في أفضل الحالات – غير مبالٍ بإنشاء كيانات حزبية من شأنها أن تكون أُطرًا ناظمة للعمل السياسي.

وقد بدا عدم الاكتراث هذا في أوضح صوره طوال أربعة عشر عامًا من عمر الثورة السورية، إذ لم تشهد هذه المرحلة ظهور أحزاب أو كيانات سياسية سورية وازنة وذات تأثير في المشهد السوري، وذلك على الرغم من الحاجة الشديدة إليها.
وربما ثمة من يعترض على ذلك بالقول: إن المشهد السوري، بعد انطلاقة الثورة، أسفر عن تأسيس العشرات، وربما المئات، من الأحزاب والتيارات والتجمعات السياسية، وخاصة في بلدان اللجوء والمهاجر، وهذا صحيح.
ولكن بالتأكيد لا نعني تلك الأحزاب والتجمعات التي انحصر وجودها في المجال الافتراضي فحسب، فهذه كثيرة العدد بالفعل، لكنها لم تحظَ بوجودٍ حسيّ، ولم تجسّد أي أثر مادي على أرض الواقع، كما لم يكن لها أي تأثير نوعي في المشهد السياسي السوري طوال سنوات الثورة.

لعل ما يعزّز الشكوك باستبعاد الحكومة الحالية لصدور قانون أحزاب في الفترة الراهنة هو استحداثها لكيان يقوم بالإشراف على مجمل الأنشطة السياسية والمجتمعية في البلاد.

وأيًا كان الحال، فإنه يمكن القول إن السوريين، خلال نصف قرن مضى، لم يتمكنوا من تأسيس مسار حزبي يمكن أن يكون إرثًا صالحًا يستطيع جيل ما بعد سقوط الأسد البناء عليه.
وإن كان حيّز هذه المقالة لا يتّسع للبحث في أسباب هذا النفور الشعبي من مسألة تأطير العمل السياسي، فإنه من الضرورة القول إن السوريين خلال العقود الخمسة الماضية لم يحصدوا ثمرة أي عمل حزبي كان له تأثير إيجابي واضح على واقعهم الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي.
فمن جهة السلطة، لم يكن لديها سوى حزب البعث، الذي كان كيانًا سلطويًا رديفًا للكيانات الأمنية لنظام الحكم.
ومن جهة المعارضة، فإن الأثر الأبرز الذي جسّدته أحزابها هو المعتقلون وضحايا التعذيب والملاحقات الأمنية، التي لم تكن تطول أعضاء تلك الأحزاب فحسب، بل أهلهم وأقرباءهم وأصدقاءهم أيضًا.

السياق الاستثنائي الذي أفضى إلى بؤس السياسة في الدولة والمجتمع من المفترض أن يكون قد انتهى باندحار نظام الأسد.
ومن المفترض أيضًا أن تكون الحكومة الحالية هي أول من يبادر إلى تصحيح هذا الخلل، وذلك بصفتها الجهة المُشرِّعة للعلاقات الناظمة بين الفرد والدولة.
وبالفعل، حين صدر الإعلان الدستوري (13 آذار 2025)، فقد تضمّن في تضاعيفه بندًا يؤكد على حق المواطن في ممارسة السياسة.
ولكن هذا التأكيد يحتاج إلى قانون ينبثق عن النص الدستوري، يتضمن تفاصيل وآليات ونواظم العمل السياسي، أي صدور قانون أحزاب جديد.
وبغياب هذا القانون، يبقى أي نشاط حزبي سياسي في سوريا مجهول النتائج والمآلات.

ولعل مرور أكثر من أربعة أشهر دون صدور قانون خاص بالأحزاب يُرجّح الظن بأنه من المُستبعَد أن يصدر مثل هذا القانون – على الأقل في المرحلة الانتقالية التي تحددت بخمس سنوات.
ولعل ما يعزّز الشكوك باستبعاد الحكومة الحالية لصدور قانون أحزاب في الفترة الراهنة هو استحداثها لكيان يقوم بالإشراف على مجمل الأنشطة السياسية والمجتمعية في البلاد، ويُدعى “هيئة الشؤون السياسية” ويتبع لوزارة الخارجية، الأمر الذي يُحيل في الأذهان إلى الدور الوصائي الذي كان يمارسه حزب البعث الحاكم سابقًا.

لماذا ترتاب السلطة الحاكمة من الحراك الحزبي؟

لقد رسخ في الوعي العام السوري، طوال عقود مضت، أن المسعى الأول لأي حزب سياسي هو الوصول إلى السلطة.
وربما كان الأمر كذلك بالفعل، ليس في سوريا فحسب، بل في كل أنحاء العالم، وذلك عبر قوانين ناظمة لمفهوم المشاركة السياسية وتداول السلطة سلميًا وسوى ذلك.
فضلًا عن أن الأطر الحزبية تُسهم في تجسيد رأي المواطنين في الشأن العام، وتتيح لهم نقلَ آرائهم وتصوراتهم وتطلعاتهم من الحيّز الخاص إلى الرأي العام.

وإذا كان هذا الأمر مطلبًا جماهيريًا عامًا في الدول ذات النُظم الديمقراطية التي تحظى باستقرار أمني واقتصادي ومجتمعي، فإنه – في الدول ذات الإرث الاستبدادي وغير المستقرة أمنيًا ومجتمعيًا – يبدو مدعاةً للخطورة ومبعثًا للفوضى.
وغالبًا ما تقرن السلطات في هذه الدول مسألة التعدد الحزبي والمشاركة الفعلية في القرار السياسي بمفهوم الاستقرار وتمكين الدولة.

وبعيدًا عن صحة أو خطل هذا التصوّر، فإن المقاربة الأكثر واقعيةً للحالة السورية الراهنة تُحيل إلى أمرين اثنين:

1 – وصول السلطة الحالية إلى سدّة الحكم نتيجة لحراك عسكري ثوري، يجعل من أولوياتها حماية السلطة والحفاظ على تماسكها، والعمل على منع أي اختراق لبنيتها، طالما أنها ما تزال تستمد مشروعيتها من مُنجزها الثوري وليس من محدّدات دستورية.
ولعل هذا ما يفسّر اعتمادها مبدأ الولاء بدلًا من مبدأ الكفاءة، وكذلك التزامها بأن يكون فريقها الحكومي العامل متجانسًا من حيث الولاء والأيديولوجيا.
ولعلّه من الصعب التكهّن: هل سيكون هذا النهج محكومًا بفترة زمنية محددة تتمثل بالمرحلة الانتقالية فقط؟ أم سيكون نهجًا دائمًا؟

2 – تنحدر السلطة الراهنة من مرجعية أيديولوجية ذات منحى إسلامي جهادي، لا ينسجم، بل ربما يتناقض مع مفاهيم الديمقراطية وتعدّد الأحزاب وتداول السلطة سلميًا.
إلا أنها – في الوقت ذاته – تؤكد باستمرار استعدادها للتماهي مع مفاهيم الدولة الحديثة، كمفهوم المواطنة، والتزامها بمعايير حقوق الإنسان.
وسواء أكان هذا التوجه فعليًا أم جزءًا من نهج براغماتي في الخطاب، فإنه يمكن القول إن مسألة إصدار قانون خاص بالأحزاب يتيح ممارسة السياسة للجميع، كما يتيح المجال للمشاركة في صناعة القرار السياسي في البلاد، لهو أمرٌ لا يمكن توقّعه في القريب العاجل.
بل الأرجح أن تأخذ السلطة الراهنة فرصتها كاملةً في التفكير، بغيةَ إنجاز قانون للعمل الحزبي لا يكون في تضادٍّ مع توجّهاتها الأيديولوجية من جهة، ويحفظ لها ديمومة السيطرة والقدرة على ضبط الحراك السياسي بحيث لا يفضي إلى مآلات تتضارب مع توجهاتها الاستراتيجية (أمنيًا وسياسيًا) من جهة أخرى.

إن حاجة السوريين اليوم إلى الحوار والبحث المعمق والصريح حول قضايا حاضرهم ومستقبلهم، وكذلك حول خلافاتهم، هي أُولى الأولويات لتجاوز المحنة.

الأطر الحزبية حاجة وليست ترفًا سياسيًا

ما من شكٍّ في أن افتقاد الأطر الحديثة للعمل السياسي لن يفضي إلى انعدام السياسة فحسب، بل الأصح أنه سيُعيد إنتاجها، ولكن عبر بُنى وآليات بديلة، سواءٌ من جهة السلطة الحاكمة أو المجتمع عمومًا.
وقد ظهر ذلك جليًا في ظل الحقبة الأسدية، إذ أسهم سعي نظام الأسد في مصادرة الحراك السياسي المجتمعي، وإفراغ البُنى الحزبية من فحواها الجوهري، وتحويلها إلى كيانات أمنية رديفة للسلطة، إلى الاعتماد على الطائفة بدلًا من الحزب بالنسبة إلى السلطة.
أما بالنسبة إلى المجتمع، فقد شهدنا ارتكاسات شديدة الانحدار نحو العشيرة والطائفة والعرق، أي إلى مجمل البُنى التي تنتمي إلى ما دون مفهوم الدولة.

واليوم، فإن ما تواجهه البلاد من تركةٍ أسدية ثقيلة لا ينحصر بالخراب والدمار المادي فحسب، بل بخراب مجتمعي يتجلّى في سعير الحرائق الطائفية التي باتت تُهدّد بتقويض الدولة والمجتمع معًا.
ولا شك أن جزءًا كبيرًا من ارتفاع منسوب السعير الطائفي، وعدم القدرة على تجاوزه أو – على الأقل – ضبطه والسيطرة عليه، إنما يعود إلى غياب السياسة، نتيجة لغياب حواملها الفعلية، المتمثلة بالأحزاب والتيارات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني.

إن حاجة السوريين اليوم إلى الحوار والبحث المعمق والصريح حول قضايا حاضرهم ومستقبلهم، وكذلك حول خلافاتهم، هي أُولى الأولويات لتجاوز المحنة.
والحوار في السياسة ينبغي أن يكون عبر أدوات وأقنية سياسية، لا من خلال المضافات ولمّات الفزعة.

لا يمكن لأحدنا أن يتنكّر لارتكاسات شديدة البؤس، ليس في الأوساط الشعبية فحسب، بل في الوسط النخبوي، الذي بات يُجسّد نموذجًا ساطعًا للاصطفاف الطائفي والعرقي.
لعلها الحقيقة المؤلمة اليوم، أن يهجر العديد من المثقفين والسياسيين السوريين منابرهم الثقافية والفكرية، ويغادروا مجمل شعاراتهم الحداثية التي التحفوا بها طوال سنوات، ليعودوا ويصبحوا حماةً ومحرّضين وناطقين رسميين على منابر العشيرة أو الطائفة أو القوم.

إن الدعوة إلى تجاوز البُنى والأُطر البدائية الناظمة للحراك المجتمعي ينبغي أن تتزامن مع إيجاد أطر بديلة أكثر رقيًا وحداثة.
ويمكن أن يُقال العكس كذلك: إن الإصرار على تغييب تلك الأطر الحديثة (الأحزاب، النقابات، المنظمات) وجعلها محظورة، والنظر إلى وجودها وعملها بمزيد من الريبة المتوارثة، إنما يعني المساهمة في تكريس الأطر البدائية.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى