
أعلنت الحكومة السورية عن بدء تدفق الغاز الطبيعي الأذربيجاني، بدعم قطري، عبر الأراضي التركية إلى البلاد اعتباراً من 2 آب 2025؛ حيث يأتي هذا التطور في ظرف بالغ الحساسية من الناحية الأمنية بسبب وجود مشكلات أمنية في شرق البلاد وجنوبها، والاقتصادية في وقت تستمر فيه معاناة سوريا من أزمة طاقة خانقة ألقت بظلالها على مختلف القطاعات الحيوية لسنوات، من الصناعة والزراعة إلى الصحة والتعليم، وحتى أصغر فرد في المجتمع.
لطالما كان نقص الطاقة أحد أبرز المعوقات أمام إعادة الإعمار أو تحريك عجلة الاقتصاد السوري، فقد عانت البلاد خلال السنوات الماضية من شُحّ موارد الطاقة، ما جعلها تعتمد على مصادر طاقة محدودة ومرتفعة الكلفة – سواء من الإنتاج المحلي أو الاستيراد أو شيء من الطاقة البديلة المعتمدة على الطاقة الشمسية. لذلك، فإن الغاز الأذربيجاني يُعتبر اليوم خياراً جديداً يعيد تشكيل خريطة الطاقة السورية، ويمنح دفعة للمشاريع المتوقفة، ويخفض التكاليف التشغيلية في عدد من القطاعات، ويسرّع من عملية التعافي، لكون أذربيجان ستُصدّر 1.2 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً إلى سوريا من حقل “شاه دنيز” للغاز في بحر قزوين، وستنتج نحو 900 ميغاواط من الكهرباء يومياً، مما يرفع عدد ساعات تشغيل الكهرباء في سوريا إلى 10 ساعات يومياً.
لكن السؤال الأهم: كيف يمكن أن ينعكس إمداد الغاز الأذربيجاني على مختلف القطاعات الاقتصادية؟
تأثير إمداد الغاز على القطاع الصناعي
يُعتبر القطاع الصناعي من أكثر القطاعات التي يُتوقّع أن تستفيد مباشرة من وصول الغاز الأذربيجاني؛ حيث عانى خلال السنوات الماضية من شبه شلل بسبب الانقطاعات الكهربائية وارتفاع تكاليف الطاقة البديلة. يُمثّل توليد الكهرباء من الغاز الطبيعي حلاً مناسباً للمنشآت الصناعية من حيث الكفاءة والسعر وفقاً للظروف الراهنة، بدلاً من تشغيل مولدات الديزل التي تحتاج إلى مصاريف طائلة. وفي حال استمرار استقرار تدفّق الغاز، يُتوقّع إعادة تشغيل عدد كبير من المصانع المتوقفة أو العاملة بطاقة منخفضة، لا سيما في المناطق الصناعية الكبرى مثل عدرا، وحسياء، والشيخ نجار. وبطبيعة الحال، فإن تخفيض تكاليف الإنتاج سيمنح هذه المصانع قدرة تنافسية أعلى، سواء في السوق المحلي أو في أسواق التصدير، ما يساعد في تحريك عجلة الاقتصاد الكلي وتوفير فرص عمل جديدة.
إضافة إلى ذلك، فإن توفّر الغاز سيُشجّع على جذب استثمارات جديدة إلى القطاع الصناعي، بما في ذلك رؤوس الأموال السورية الموجودة في الخارج. ومع استقرار نسبي في إمدادات الطاقة، يُتوقّع أن نشهد زخماً في حركة إعادة تشغيل خطوط إنتاج متوقفة أو توسيع نشاطاتها الحالية.
كما سيساعد الغاز في دعم الصناعات الزراعية التحويلية (كالسكر، والزيوت، والألبان، والعصائر)، وهي صناعات كانت في حالة مزرية بسبب ضعف الطاقة الإنتاجية وارتفاع تكاليف الوقود، ما أدى إلى خروج كثير من الشركات من السوق أو تقليص أنشطتها بشكل حاد. غير أن تحسّن القطاع الصناعي يظل مشروطاً بعدة عوامل؛ أبرزها قدرة الدولة على توزيع الغاز بعدالة وكفاءة، ومدى استعدادها لتقديم حوافز حقيقية للمصانع التي تُعيد العمل، كما أن البيئة التنظيمية والبيروقراطية قد تكون عائقاً ما لم يتم إصلاحها بالتوازي مع تحسين الإمدادات.
في هذا الإطار، يقول الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي في حديث خاص لتلفزيون سوريا: “يتوقّع أن يُساهم إمداد الغاز في تقديم تطمينات للصناعيين والمستثمرين، ودفعهم للعودة إلى سوريا دون وجود تخوّف من انعدام الطاقة، لكونها ركيزة الصناعة، وهذا ما يؤدي إلى جذب المزيد من الاستثمارات للبلاد”.
تأثير إمداد الغاز على القطاع الزراعي
لا يُعتبر القطاع الزراعي مستهلكاً مباشراً كبيراً للغاز كما في حالة القطاع الصناعي، إلا أن تأثير الغاز الأذربيجاني عليه سيكون غير مباشر، لكنه عميق، من خلال خفض تكاليف الطاقة المستخدمة في تشغيل الأنشطة الزراعية والخدمية المرافقة لها.
في الريف السوري، يعتمد كثير من المزارعين على المولدات الخاصة أو مضخات المياه العاملة بالوقود لتأمين احتياجات الري، وهو ما يُشكّل عبئاً مالياً متزايداً في ظل أسعار المازوت المرتفعة وانقطاع الإمدادات. ومع دخول الغاز إلى منظومة الطاقة الوطنية، من المتوقع أن تتحسن إمدادات الكهرباء للريف الزراعي، مما يُخفف الاعتماد على الوقود البديل ويُقلل التكاليف التشغيلية.
بالإضافة إلى ذلك، سيسهم استقرار الكهرباء والوقود في دعم سلسلة الإمداد الزراعي، خصوصاً فيما يتعلق بالتخزين والتبريد والنقل. كما أن مصانع التعليب والتوضيب والتجميد – التي تشكل الحلقة الوسيطة بين الإنتاج الزراعي والأسواق – كانت تعاني من ضعف الإنتاجية بسبب الانقطاعات المزمنة للطاقة، بالتالي سيمكن الغاز هذه المنشآت من العمل بكفاءة أعلى، وهو ما يفتح الباب لخلق قيمة مضافة للمنتج الزراعي السوري بدلاً من تصديره خاماً أو خسارته في الحقول.
في هذا الإطار، يقول قضيماتي: “يتوقع أن ينعكس الأمر عبر زيادة المحاصيل الزراعية، والتفكير الجدي من قبل المزارعين بالعودة للعمل في أراضيهم، وبالتالي إعادة تأهيل السلة الغذائية السورية”.
تأثير إمداد الغاز على القطاع التجاري
لا يمكن لأي استثمار أن ينمو أو حتى يُفكّر في التوسّع ضمن بيئة تعاني من انقطاع دائم للطاقة وارتفاع مزمن في كلفتها. من هنا، يشكّل وصول الغاز الأذربيجاني إلى سوريا فرصة محتملة لإعادة ضخ الروح في مناخ الاستثمار والتجارة، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي. أول ما قد يلاحظه المستثمرون هو تحسّن مستوى الاستقرار الطاقي، وهو أحد المؤشرات الأساسية التي يقيّم بها القطاع الخاص جدوى الدخول في أي مشروع جديد.
توفر الغاز – خاصة إذا تم استخدامه في تغذية المدن الصناعية – يؤدي إلى تنشيط الاستثمارات المتوقفة، ويعيد جذب بعض رؤوس الأموال السورية التي خرجت خلال سنوات الحرب. هذا بدوره يمكن أن ينعكس إيجاباً على حركة التجارة، سواء عبر تقليل الاعتماد على الاستيراد أو عبر تشجيع التصدير، خاصة نحو الأسواق المجاورة. من جهة أخرى، قد يفتح التعاون مع أذربيجان في مجال الطاقة الباب أمام عقود شراكة واستثمار مشترك، سواء في قطاع الطاقة أو في قطاعات صناعية وتجارية أخرى، بما يعزز مكانة سوريا كمحور محتمل للربط الإقليمي في المستقبل إذا سمحت الظروف الجيوسياسية بذلك. لكن يبقى تحقيق هذه المكاسب مشروطاً بتحسين بيئة الأعمال، وتقديم ضمانات قانونية حقيقية للمستثمرين، وهي تحديات لا تقل أهمية عن توفر الغاز نفسه.
تأثير إمداد الغاز على القطاع الأسري
بينما تُسلّط الأضواء غالباً على التأثيرات الكبرى للغاز في الصناعة والزراعة، فإن الأثر على الحياة اليومية للأسر السورية لا يقل أهمية، بل هو – بالنسبة لغالبية المواطنين – المؤشر الحقيقي لأي تحسّن اقتصادي. في المدى القريب، يُتوقع أن تكون الفائدة مباشرة، وذلك عبر تحسين التغذية الكهربائية المنزلية، وبالتالي تقليص الاعتماد على الاشتراكات في المولدات أو شراء أنظمة طاقة شمسية، والتي تشكّل عبئاً كبيراً على دخل الأسرة السورية.
كل ساعة كهرباء إضافية تُوفّرها محطات الغاز هي ساعة تُوفّر فيها الأسرة أموالاً كانت تُدفع بشكل مضاعف لتأمين الإنارة أو تشغيل الأدوات المنزلية.
أما على المدى المتوسط، فإن جزءاً من الغاز المستورد قد يُستخدم لتغطية احتياجات الغاز المنزلي. وفي حال تحسّن التوزيع ووفرة المادة، يمكن أن تنخفض أسعار الغاز المنزلي، أو على الأقل تستقر بعد سنوات من الاضطراب والانقطاع، ما ينعكس مباشرة على معيشة الناس اليومية. كما أن أي انخفاض في تكاليف الإنتاج والنقل والتخزين سيساهم في تهدئة الأسعار في السوق، خصوصاً في السلع الأساسية التي تشكّل العمود الفقري لسلة استهلاك الأسرة السورية.
تأثير إمداد الغاز على القطاع الصحي والطبي
لا يُعتبر إمداد الغاز في القطاع الصحي مسألة كلفة أو توفير فقط، بل قد يكون مسألة حياة أو موت. فالمستشفيات والمراكز الصحية في سوريا عانت – وما تزال – من ضعف شديد في تأمين الطاقة، ما أثّر بشكل مباشر على قدرتها على تقديم الخدمات، سواء في المدن أو في المناطق الريفية.
وبوصول الغاز الأذربيجاني، فمن المهم تخصيص جزء منه لدعم القطاع الصحي، ما يعزز البنية التحتية الصحية. فالاعتماد على الكهرباء المستقرة أو الغاز كمصدر مباشر للطاقة يمكن أن يعيد تشغيل معدات طبية معطّلة، أو يخفف الضغط على المولدات التي تحتاج لصيانة دائمة وكميات كبيرة من الوقود. أحد الجوانب المهمة هو دعم سلسلة التبريد الخاصة بالأدوية واللقاحات، لا سيما تلك الحساسة للحرارة.
مراكز التلقيح، والصيدليات، ومخازن الأدوية تحتاج إلى طاقة موثوقة لحفظ المستلزمات الطبية من دون انقطاع. فالغاز يمكن أن يوفر هذا الاستقرار في مناطق كانت تعتمد على حلول بدائية وغير آمنة. كما قد يساعد استقرار الطاقة في تحسين بيئة العمل داخل المستشفيات الحكومية والخاصة، وتحفيز القطاع الصحي الخاص على التوسّع أو العودة للعمل بكامل طاقته في حال انخفاض تكاليف التشغيل. ولتحقيق تأثير فعلي، لا بد من وجود سياسة صحية واضحة تربط الأمن الطاقي بالعدالة الصحية، وتضع المستشفيات العامة ضمن أولويات التزويد بالغاز أو الكهرباء الناتجة عنه.
تأثير إمداد الغاز على القطاع التعليمي
لا يُصنَّف التعليم عادة كأحد القطاعات “كثيفة الطاقة”، إلا أن تأمين مصدر مستقر للطاقة يمكن أن يُحدث فرقاً حقيقياً في جودة التعليم في سوريا، لا سيما في المراحل العليا والجامعية، حيث أصبحت الطاقة أحد الشروط الأساسية لاستمرارية العملية التعليمية.
في المدارس، يمكن أن يُسهم تحسّن التغذية الكهربائية – الناتج عن دخول الغاز إلى محطات التوليد – في استقرار الدوام المدرسي، خصوصاً في الشتاء، حيث تتسبب برودة الصفوف أو انعدام التدفئة في تقليص عدد الحصص أو تغيب الطلاب.
كما أن توفّر الكهرباء بشكل منتظم يُحسّن بيئة التعليم الرقمي، الذي يجب أن يدخل إلى الصفوف تدريجياً كأداة ضرورية في التعليم المعاصر.
أما على مستوى الجامعات والمعاهد التقنية، فإن الفائدة قد تكون أكبر، حيث تعتمد كثير من الكليات على المخابر العلمية، وأجهزة التحليل، والورش التدريبية، التي تحتاج إلى كهرباء مستقرة للعمل. الغاز – كمصدر طاقة مباشر أو غير مباشر – يمكن أن يُعيد تشغيل هذه المنشآت بكفاءة أعلى، ويساعد في إعادة الاعتبار للتعليم التطبيقي الذي فقد كثيراً من فاعليته خلال السنوات الماضية.
كذلك، فإن المدن الجامعية ومساكن الطلاب ستستفيد من الغاز، سواء عبر تحسّن التدفئة المركزية أو خفض الضغط عن الشبكات الكهربائية الداخلية، ما يُوفّر بيئة معيشية وتعليمية أكثر استقراراً للطلبة. ولكن، كما في بقية القطاعات، فإن استفادة التعليم من الغاز ستتطلب خطة توزيع عادلة، وتنسيقاً بين وزارتي التربية والتعليم العالي ووزارة الكهرباء والطاقة، حتى لا تبقى الفائدة محصورة في بعض المناطق أو المؤسسات دون غيرها.
بشكل عام، يُعتبر وصول الغاز الأذربيجاني أمراً مهماً للاقتصاد السوري، ليس فقط لأنه يُوفّر مصدراً جديداً للطاقة، بل لكونه عاملاً رئيسياً في عملية التنمية الاقتصادية. فالكهرباء وحدها لا تبني اقتصاداً، لكنها مفتاح رئيسي إذا وُضع في القفل الصحيح. فالتحليل القطاعي يُظهر أن الأثر المحتمل لهذا الغاز واسع وعابر للقطاعات، من الصناعة التي يُتوقّع أن تنتعش، والزراعة التي ستُعيد تشكيل السلة الغذائية تدريجياً، والأسرة التي ستكتفي بالحد الأدنى من الطاقة، إلى التعليم والصحة اللذين يجب أن يخرجا من دوامة الانقطاع والعجز. لكن هذا الأثر مرتبط ببنية تحتية جاهزة لاستقبال الغاز وتوزيعه بفعالية على مختلف المدن السورية، وضمان وجود سياسات توزيع عادلة وشفافة تمنع الاحتكار أو الفساد، وبيئة استثمارية محفّزة تجعل تأمين الطاقة أداة جذب لرأس المال وليس مجرد استهلاك، وإرادة سياسية تربط استخدام هذا المورد بخطط إصلاح حقيقية لا تقتصر على إدارة الأزمة.