
ملاحظة لافتة في بعض أوساط الإسلاميين واليساريين المعارضين في العالم العربي، ممّن يختارون لاحقاً أن يتخلوا عن المعارضة والانتقال إلى صفوف الأنظمة، تتعلّق بمقاربتهم المسألة الوطنية. كثيرون بين هؤلاء يبدون كأنّهم يحاولون تعويض ما يرونه نقصاً سابقاً في وطنيتهم وانتمائهم إلى أوطانهم، بل حتى استدراك ما يروْن أنه قد يكون فاتهم من امتيازات شخصيَّةٍ يعتقدون أنهم مستحقّون لها. ومن ثم، تراهم يبالغون في تقمّص ما يعدّونه وطنية، بل حتى المزاودة على من كانوا يعيرونهم بها. غير أنَّ مقاربتهم الوطنية هنا تكون معطوبة، إن لم تكن أقرب إلى الشوفينية الشرسة، ذلك إمّا أنها تنطلق من حسابات مصلحية ذاتية، وإما من ردّة فعل متطرّف، قائم على مركّب نقص وشعور بضرورة التكفير عن “أخطاء الماضي”.
تقوم مقاربة الإسلاميين واليساريين (عموماً) على رفض فكرة الوطنية التقليدية، إذ يؤمن الإسلاميون بمفهوم الأمَّة الإسلامية الواحدة، والذي يعلو على أيّ انتماء آخر، في حين يطرح اليساريون الأممية البروليتارية والوطنية الاشتراكية الثورية التي تربط سكّان البلاد الاشتراكية بعضهم ببعض، ولا يعتدّون بالقومية. وفي حين تعتبر الأدبيات الإسلامية الكلاسيكية الدولة القُطرية الحديثة ومفهومها للوطنية مشروعاً تجزيئياً في جسد الأمَّة الواحدة، يهدف إلى تشظيتها وإبقائها ضعيفةً ومقسَّمة، نجد أن الوطنية الاشتراكية ترى أن الوطنية التقليدية في الدولة الحديثة أداةٌ لقمع الشعوب وترسيخ الهيمنة البرجوازية والاستعمار الأجنبي.
نجد تنقيحيّين جدداً كثيرين في صفوف الإسلاميين واليساريين يقاربون الوطنية في إطار شوفيني عنصري فجٍّ وبغيض
ما سبق هي المفاهيم الكلاسيكية، وشهدت تطوّرات وتعديلات ومواءمات لتكون أكثر ملاءمة لتعقيدات الواقع، خصوصاً أن الإسلاميين والاشتراكيين وصلوا إلى الحكم في دول عدّة، إلا أنهم فشلوا في تحويل أيٍّ منها “دولةَ الأمَّة” أو “الدولة الأممية”، أو حتى الوحدة رغبة لا قسراً (الاتحاد السوفييتي مثلاً)، وانتهى بهم الحال أسارى لبِنى الدولة القُطرية الحديثة، ولإكراهات الوطنية التقليدية، حتى وهم يزعمون رفضهم لها.
نعود إلى محاولات بعض الإسلاميين واليساريين “التنقيحيّين” (revisionists) إعادة مقاربة مفهوم الوطنية التقليدية. ليس تلك المحاولات كلّها منحرفة، بل إن كثيراً منها كانت جهوداً فكريةً جادّةً تهدف إلى المصالحة بين الأمّة / الأممية والوطنية، كما نجد في أعمال راشد الغنّوشي وطارق البشري ومحمّد عمارة في الصفّ الإسلامي، وفي أعمال مهدي عامل وإلياس مرقص ونور الدين العلوي في الصفّ اليساري. لا مشكلة في إعادة قراءة الوطنية في هذا السياق، بل هي إثراء وفي مصلحة الشعوب العربية/ الأمَّة العربية/ الأمَّة الإسلامية. لكن الإشكال الحقيقي هنا هو مع الذين ينطلقون في مقارباتهم من منطلقات تسطيحية تتعلّق بشعورهم بالنقص جرّاء هزائمَ فكريةٍ وسياسيةٍ منيت بها تيّاراتهم، أو لإدراكهم المتأخّر أن الأيديولوجيات التي يتبنّونها تحوّلت معتقلاتٍ لمصالحهم الذاتية. هنا مكمن المشكلة والخطر في آن. ومن يمعن النظر في بعض نماذج هذا التيّار يرى حجم التشوّه الذي يعانيه، وحجم التشويه الذي يمارسه، لمفهوم الوطنية، بل إنهم قد يصلون حدّ الخيانة لمصالح أوطانهم وشعوبهم، وليس أيديولوجياتهم السابقة فقط، في سبيل تحقيق مصالح ومنافع ذاتية وشخصية.
أصبح التنقيحيّون المنفعيّون الجدد، في صفوف الإسلاميين واليساريين العرب ظاهرةً
لا أريد الاستطراد كثيراً هنا، لكن الوطنية الحقيقية لا تعني أبداً التماهي الدائم مع السلطة، نزيهةً وعادلةً كانت أم فاسدةً وظالمةً. وهي قطعاً لا تعني تبرير خطايا الأنظمة وجرائمها، وفسادها، وقمعها، وتزييفها، وكذبها. الوطنية الحقيقية والولاء للأوطان قد يكونان في شكل معارضة وطنية تتوسّل مصالح الدولة والشعب، لا مصالح النظام، التي لا تكون متماهية ومتطابقة في الغالب. والوطنية الحقيقية قد تعني التصدّي للأنظمة عندما ينحرف مسارها وتخون أوطانها ومصالحها وتساوم على سيادتها. إلا أننا نجد تنقيحيّين جدداً كثيرين في صفوف الإسلاميين واليساريين يقاربون الوطنية في إطار شوفيني عنصري فجٍّ وبغيض، ويتحوّلون اعتذاريّين عن قمع الأنظمة وفسادها، وحتى خياناتها، ليس خوفاً من صولجان السلطان فقط، بل طمعاً في أعطياته. ومن مفارقات ساخرة هنا أن تجد أن بعض إسلاميين ويساريين، مناضلين سابقين، تحوّلوا هم أنفسهم أدواتِ قمع، فكرية أو مادّية، في ترسانة السلطة، وغرباناً ناعقةً ضدّ كلّ من يجرؤ على كشف فساد نظام أو تزييفه أو خيانته، وهم كثيراً ما يفعلون ذلك باسم الوطنية وحبّ الأوطان، لكنهم يخونونها في سبيل تحقيق مصالحهم هم.
علينا الاعتراف أن التنقيحيّين المنفعيّين الجدد في صفوف الإسلاميين واليساريين العرب أصبحوا تيّاراً، بل ظاهرةً، وليسوا نماذج معزولة فقط. كما ينبغي لنا الاعتراف أنهم ليسوا كلّهم ضحايا ما يشعرونه من هزيمة فكرية أو سياسية، بل إن كثيرين بينهم اختاروا أن يدوسوا جثث أوطانهم وشعوبهم في سبيل تحقيق غايات شخصية دنيئة ونيل مناصبَ، في حالاتٍ كثيرة، لا يستحقونها، ولكنْ أهلتهم إلى ذلك خيانات فكرية وسياسية اقترفوها.
المصدر: العربي الجديد