عن الاستقطاب الطائفي في سوريا ومخاطره

محمود علوش

شهدت محافظة السويداء مؤخرًا أحداثَ عنفٍ أثارت القلق، مُسلِّطةً الضوء على تصاعد الاستقطاب الطائفي في سوريا، وهو ما تجلّى أيضًا في أحداث الساحل السوري في مارس/آذار الماضي.

تُظهر هذه الأحداث أن الاستقطاب الطائفي يتحول تدريجيًا إلى تهديد خطير للسلم الأهلي وللاستقرار الهشّ الذي سعت السلطة الانتقالية إلى تثبيته بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد. يجد هذا الاستقطاب جذوره في تاريخ الصراع الطويل، بل يمتد إلى ما قبل ذلك، ويُغذّيه اليوم انعدام الثقة بين الحكم الجديد وأطراف داخلية معارضة له، فضلًا عن تدخلات خارجية، كتلك التي تقوم بها إسرائيل، والتي تسعى لتعميق الانقسامات. ومع ذلك، فإن الاستسلام لفكرة أن هذا الاستقطاب حتمي، أو تغذيته عبر سياسات الهوية الطائفية، يُعدّ الخيار الأسوأ الذي يمكن أن تسلكه سوريا.

تركة الحرب الثقيلة والتدخلات الخارجية التي تُغذّي الانقسامات، تبدو أكبر من قدرة الشرع على تفكيكها في وقت قصير.

تُبرز أحداث السويداء والساحل أن التحدي الأبرز الذي يواجه سوريا في مرحلة التحول هو إعادة بناء النسيج الوطني المتصدّع، وتهدئة التوترات الطائفية الموروثة من الحرب وعقود الاستبداد التي غذّت هذه الانقسامات. هذا التحدي لا يقتصر على تهديد السلم الأهلي، بل يُفاقم تحديات أخرى أو يُولِّد تحديات جديدة. فمن ناحية، يُشتّت الاستقطاب الطائفي أولويات سوريا في بناء دولة وطنية وتحقيق التعافي من آثار الحرب، مُخلّفًا المزيد من الندوب في نسيجها الاجتماعي. ومن ناحية أخرى، تُضعِف هذه الاضطراباتُ ثقةَ المجتمع الدولي في قدرة الحكم الجديد على تحقيق الاستقرار. علاوة على ذلك، يُشكّل الاستقطاب مدخلًا لدولٍ تسعى لزعزعة استقرار سوريا لتحقيق أهدافها الخاصة. فإسرائيل، على سبيل المثال، تستغل العلاقة بين بعض التيارات الدرزية والدولة لتعميق الانقسامات، ولا تُخفي رغبتها في تقسيم سوريا إلى كيانات طائفية وعرقية. وينطبق الأمر ذاته على دول أخرى تجد في التوترات الطائفية فرصةً للتدخل في استقرار سوريا.

تتعدد العوامل التي تُغذّي هذا الاستقطاب، ومعالجتها تتطلب وقتًا طويلًا، لكن سوء إدارتها يُضاعف من تأثيرها السلبي. أبدى الرئيس أحمد الشرع التزامًا واضحًا بتبنّي نهج وطني في إدارة التحول السياسي، وسعى لتبديد مخاوف مختلف المكونات من خلال تشجيعها على المشاركة في بناء سوريا الجديدة. لكن هذا النهج لم ينجح بعد في القضاء على هذه المخاوف أو الحد من سعي بعض المكونات إلى تأمين خصوصيات طائفية. وبغضّ النظر عن الدوافع العميقة لسياسات الهوية الطائفية والعرقية، فإن الحكم الجديد لم يتمكن حتى الآن من الحدّ من تأثيرها على العلاقة مع مختلف المكونات. فتركة الحرب الثقيلة والتدخلات الخارجية التي تُغذّي الانقسامات، تبدو أكبر من قدرة الشرع على تفكيكها في وقت قصير. ومع ذلك، يُسلّط تصاعد الاستقطاب الطائفي الضوء على ضرورة تبنّي نهج جديد يُركّز على تفكيك هذه الانقسامات كأولوية قصوى.

هناك نماذج إقليمية يمكن الاستفادة منها لمعالجة الاستقطاب الطائفي ونقل العلاقات بين المكونات من مرحلة الصراع إلى مرحلة الاستقرار. من بينها لبنان، الذي لا يُعدّ نموذجًا مثاليًا نظرًا لفشله في تجاوز سياسات الهوية الطائفية وبناء دولة وطنية متكاملة. لكن الأخطاء في لبنان لا تعود بالأساس إلى اتفاق الطائف، الذي أرسى استقرارًا طائفيًا نسبيًا، بل إلى استغلال هذا الاتفاق لتعزيز نفوذ الزعامات الطائفية على حساب مشروع الدولة. وهذا ما يُفسّر حساسية الرئيس الشرع تجاه نظام المحاصصة الطائفية. ومع ذلك، فإن البنية الطائفية للمجتمع السوري تفرض نوعًا من المحاصصة كوسيلة لتحقيق الاستقرار الطائفي والمجتمعي، لا كهدف نهائي.

في الواقع، يمكن لمثل هذا النهج أن يُسهم في الحدّ من التأثيرات السلبية للاستقطاب الطائفي على عملية التحول، شريطة ألّا يتعارض مع مشروع الدولة الوطنية، بل يدعمه. إن إشراك مختلف المكونات بشكل فعّال وشفاف في السلطة قد يكون خطوة أولى لتفكيك هذا الاستقطاب. لكن هذه المسؤولية لا تقع على عاتق السلطة الانتقالية وحدها، بل تتطلب من جميع المكونات إظهار التزام واضح بمشروع الدولة الوطنية، بعيدًا عن السعي لإقامة نظام سياسي قائم على المحاصصة الطائفية.

العدالة الانتقالية ليست مجرد وسيلة لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة خلال الصراع، بل هي ضرورة لإطلاق عملية مصالحة وطنية شاملة.

ففي لبنان، نجح نظام المحاصصة في نقل العلاقات بين الطوائف من الصراع إلى السلام، لكنه فشل في إطلاق مشروع الدولة الوطنية أو معالجة الاستقطاب الطائفي، الذي أصبح سمة دائمة في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية.

إلى جانب المشاركة الوطنية الشاملة في بناء سوريا الجديدة، يُعدّ التأخير في إطلاق مشروع العدالة الانتقالية محرّكًا رئيسيًا لتصاعد الاستقطاب الطائفي. فالعدالة الانتقالية ليست مجرد وسيلة لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة خلال الصراع، بل هي ضرورة لإطلاق عملية مصالحة وطنية شاملة. يتعيّن على السوريين إدراك أن التنوع الطائفي يُشكّل ميزة لسوريا، لا نقمة، وأن منطق الصراع بين الأقليات والأكثرية مكلف للغاية، ليس فقط للنسيج الوطني، بل لمشروع الدولة الوطنية برمّته. لم تعد سوريا تمتلك رفاهية التأخير في وضع أولويات إعادة ترميم النسيج الوطني وتحقيق الاستقرار في العلاقات بين مختلف المكونات. فأحداث العنف، التي تأخذ طابعًا طائفيًا واضحًا، وإن لم يكن المُحرّك الرئيسي لها، يمكن أن تتحول إلى صدعٍ مزمن يُقوّض مشروع العبور إلى الدولة، ويُرسّخ هوامش إضافية للخارج للعبث في بنية المجتمع السوري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى