ماذا يحصل في العالم؟

د- أحمد سامر العش

كثيرٌ من الأصدقاء يسألني عن رأيي بما يحصل في المسألة السورية ومشاريع الشرق الأوسط الجديد؟ ولكن لكي نفهم ما يحصل في منطقتنا علينا أن نعلم ماذا يحصل في العالم أولاً ونرى ارتداداته على منطقتنا، فالمنطقة ليست جزيرة مفصولة عن الصراعات العالمية بل ربما أن قدرها الجيو-سياسي أنها تقع في لبِّ تقاطعات الصراعات الدولية منذ أن عرفت البشرية ما يسمى طريق الحرير.

منذ أيام خلت حضرت محاضرة تتحدث عن الفكر الغربي وصراع فكرة العَلمانية مع الأجندات التي كانت رائجة في عصرها. لكن وجدت أن الحاضرين والمحاضر قد ضاعوا وهم يبحثون عن وسيلة للربط بين الأفكار الكثيرة المطروحة من نظريات وأحداث تاريخية؛ كلُّ طرف يرويها على طريقته بحسب معتقداته ورؤيته للحياة وما بعدها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: منِ الذي يتحكمُ في الأحداث التي تجري الآن، وجرت سابقاً، وسوف تجري؟ ومن الذي يديرها؟

يقدر الخبراءُ أن في الكون ما يقارب 2 تريليون مجرة، تعادل الواحدةُ منها المجرة التي تحتوي كوكب الأرض. وربما البشر هم الكائنات الوحيدة فوق هذا الكوكب التي تفكر فيما يجري خارجه؛ وتحاول ربط الأمور بما يجري وجرى أو سوف يجري من أحداث وصراعات.

منذ فجر البشرية وقفت المخلوقات حائرة أمام عظمة الخالق وحسن ترتيبه والقواعد المتناهية في الدقة التي تحكم المخلوقات وعلاقتها فيما بينها ومع بعضها بعضا. ومنذ أن تحولتِ البشرية التي كانت تعتمد على الصيد والانعزال إلى تلك التجمعات التي تزرع وتتاجر وتتبادل السلع, أصبح الصراعُ البشريُّ المدفوعُ بالشهوات المدفونة عميقاً داخل النفوس البشرية يدور حول أمرين لا ثالث لهما: السلطة والثروة.

منذ عشرِ سنوات تقريباً قرأتُ مقالة في جريدة الغارديان البريطانية تتحدث عن أن الإقطاعية بالمفهوم التاريخي والصورة النمطية المزروعة في أذهاننا لم تنتهِ، ولكن تجددت بطريقة مبتكرة: فالإقطاع ظهر لأن الملك المُتوَّج لا يمكنه أن يدير الثروة؛ وملكه مترامي الأطراف دون إقطاعيين يدينون له بالولاء، ويزودونه بالرجال في الحرب، ويقتطعون له جزءاً من الأرباح التي يديرونها لمصلحته, كلُّ ما هنالك أن الإقطاعية غيرت جلدها وشكلها لتتكيف مع التطور في العلاقات الاقتصادية من صناعية وتجارية وكذلك لتدمج التطور التكنولوجي في طرق التواصل التي ماهي إلا انعكاس للتطور العلمي والقواعد التي تحكم آليات تحريره من المتحكمين بغية التأثير في البنى الاجتماعية. فبدل الإقطاعيين والمهراجات (جمع مهراجا) بدأنا نرى أصحاب الشركات العملاقة, وبدلاً من العبيد الذين يعملون في الأراضي والحرفيين الذين يقدمون الخدمات في الأسواق أصبحنا نرى الموظفين والعمال والبيروقراطيين الذين تجدهم في كل مكان من حولك في المقهى في السوق في الدوائر الحكومية وداخل الشركات الخاصة.

لذا إذا أردنا أن نعرف كيف يُدار العالم علينا ألا نخرج في تحليلاتنا خارج هاتين الكلمتين السحريتين؛ “الثروة والسلطة”. بالطبع ليس الهدف إطالة النقاش في من يتحكم بمن وماهي الأشكال المختلفة للتفاعل بينهما, لكن علينا أن ندرك أن الأيديولوجيات والعقائد بل وحتى الديانات لطالما استُخدمت كأدوات للسيطرة يتداولها المتحكمون داخل هاتين الكلمتين منذ تأسيس أول مدينة أو حاضرة أو مملكة إلى يومنا هذا.

حاولتِ الدياناتُ السماوية دائماً توصيلَ رسالةٍ أساسية وهي أن مفهوم الحياة والموت لا يبدأ وينتهي ضمن هاتين الكلمتين بل يتجاوزهما بمراحل, ويتوج نفسه كمساحة أكبر بكثير من تلك الموجودة في قاعة الامتحان الذي تدور أغلب أسئلته حول هاتين الكلمتين، والدليل ال 2 تريليون مجرة التي هي حقيقة وليست فكرة أو نظرية قابلة للنقاش والتأويل والتفسير. واختصار الدين وحشره في تلك القاعة يفقده جوهره ويعطل كثيراً من دينامياته. من هنا علينا أن نسأل هل من يكتب أو يقرأ هذه السطور له دور في تحريك الأحداث أو صناعتها أو حتى التأثير بها، إذا كان خارج دوائر هاتين الكلمتين؟ الجواب هو “لا” بكل تأكيد حتى لو كان هذا الشخص عالماً نووياً كبيراً أو عبقرياً في علم الأنثروبولوجيا أو أي تخصصٍ دقيق يُستخدم في تطوير أعقد أدوات الذكاء الاصطناعي؛ لأن من يأخذ  قرار التخطيط والتنفيذ واستخدام تلك الأدوات أو رميها بعيداً لا يخرج عن هاتين الكلمتين الثروة والسلطة.

هرتزيل على سبيل المثال كان صحفياً نمساوياً فقيراً يبلغ من العمر 42 ربيعاً, امتلك فكرة إنشاء الوطن القومي لليهود, لكن من وجد في المشروع ضالّته كان التحالف بين الامبراطورية المالية في ذلك الوقت “روتشيلد” والملكية البريطانية. تقرأ في الغرب أن Magna Carta الماجنا كارتا أو الميثاق الأعظم *, نقطة تحول في الحد من السلطات المطلقة للملوك وأن الثورة الفرنسية التي يصنفونها كأطول وأعظم الثورات في العصر الحديث، كلُّ ما كانت تريده هو تقليد الماجنا كارتا… كذلك نقرأ أن مارتن لوثر قوَّض سلطة الكنيسة الكاثوليكية للأبد, وأن التحالف الصهيوني المسيحي, شكل العالم الجديد، وأفرز معظم الأيديولوجيات التي صُدع رأسنا بها (القومية, الفاشية, الماركسية, الرأسمالية, الليبرالية…) والتي مكنت المتحكمين بالمشهد على سوق الجنس البشري منذ أربعة قرون كقطيع أعضاءه يشبه بعضه بعضا وليس للفردانية مكان داخله  …, وربما يحدثك قوارين (جمع قارون, Korah) العصرالحديث من أمثال ألون ماسك وبيل غيتس وتوابعهم من أمثال الوليد بن طلال والحبتور…أن الذي أُوتوه على علم عندهم؛ لم يكن وليد الصدفة ولكن وليد عبقرية وإدارة راشدة للموارد والعلاقات مع من يتحكم بالثروة والسلطة ….لكن ما فائدة الحديث في هذه الأمور وكأننا نقرأ قصة مسلية ومشوقة قبل الخلود للنوم؟ العبرة هنا؛ أن الانطلاق من الكليات يجعل التفاصيل أقل شيطانية في السيطرة على الغرائز, وعند ذلك ندرك أن ما يدور من أحداث حولنا هي كيد دبر بليل في غرف مظلمة لوضع قواعدَ جديدةٍ لسوق الجنس البشري ربما إلى شيء يجهلونه حتى من وضعوها، ولكن برأيهم يبقيهم متحكمين في أمرين لا ثالث لهما الثروة والسلطة ولو كان ذلك إلى حين.

السؤال المهم لكي نفهم العالم بشكل أفضل: من يكسر القواعد الصُلبة التي حاكها هؤلاء بعناية؟ في المنظورالقريب لا أحد من البشر! لذا علينا أن نحافظ على مقاصد الدين الخمسة: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال… وألا نتجاوز ذلك مهما كانت المغريات؛ لأن المنظومة مُحكمة ولن تنهار إلا داخلياً، والتضحية بالأساسيات الخمسة -مهما كانت طفيفة- تحت مبررات التحرر من سلطاتها المطلقة لن يؤتي أكله في المنظور القريب والمتوسط مهما بلغت من الذكاء والحكمة؛ لأنك منفعل ولست في موقع الفاعل مهما بلغ موقعك رفعة وسمواً في منطقة الشرق الأوسط، فمن يحتكر الثروة ويطوع العلم ويحتكره في إدارة المشهد، لن يعطيك الفرصة لتلعب أكبرَ من حجمك الحقيقي.

*(هي وثيقة إنجليزية صدرت لأول مرة عام 1215م. ثم صدرت مرة أخرى في عام 1216م. ولكن بنسخة ذات أحكام أقل، حيث ألغيت بعض الأحكام المؤقتة الموجودة في النسخة الأولى، خصوصاً تلك الأحكام التي توجه تهديدات صريحة إلى سلطة الحاكم وقد اعتمدت هذه الوثيقة قانونًا عام 1225م وما تزال النسخة التي صدرت عام 1297م ضمن كتب لوائح الأنظمة الداخلية لـ إنجلترا وويلز حتى الآن.و قد وصفت تلك النسخة بأنها “ الميثاق العظيم للحريات في إنجلترا), هي انجاز عظيم للحد من السلطات المطلقة للمتوج من قبل التجمعات البشرية على أنه الملك (كما يجري في أغلب الكائنات الموجودة فوق كوكب الأرض التي تعيش في تجمعات مثل؛ النمل , النحل, الحيوانات المفترسة..)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى