ترامب وجيفري إبستين… اللياقة الأخلاقية ليست ثانوية

أسامة عثمان

أهلية الرئيس الأعلى، أو ذوي المناصب العامة، والحرية الشخصية اعتباران يتنازعان الحُكْم؛ أيُّهما له الأولوية في تقرير القبول أو الرفض؛ معياراً مبدئياً، قبل النظر في الكفاءة المهنية، وقبل انتظار اختبارات الأداء الفعلي، والقدرة على تحقيق الإنجازات، ومواجهة المشكلات والتحدّيات، بسياسات الرئيس وتوجيهاته وقراراته.

ومع أن النظام الديمقراطي الأميركي، يُولي مسألة الحرية الشخصية مكانة محفوظة، وحيِّزاً مصوناً، ولليبرالية، بما تمنحه للفرد من حقوق، مكانة مقدَّسة، إلّا أنّ العُرف الأميركي جرى على افتراض حدٍّ أدنى من النظافة الأخلاقية. ولعل هذا العرف ممّا يقتضيه العقل بالعموم، وممّا تتطلبه طبيعةُ المَهمة الرفيعة المُوكَلة إلى شخص الرئيس، بما يمثله من رمزية للأمة الأميركية.

وفي الفلسفة اليونانية اتجاه مؤكّد يربط بين الأخلاق والسياسة. مثالاً، ربَط أفلاطون بين فضائل النفس والسياسة، إذ القاسم المشترك بينهما هو الخير، الذي ينتج عنه السعادة، كما ربط بين الفضيلة والمعرفة، ووثَّق سقراط الصلة، من قبل، بين العدالة والصلاح؛ عدالة الرجل الفرد وصلاحه، وعدالة الدولة وصلاحها. أمّا أرسطو فكان يرى أنّ الفضيلة الأخلاقية تكمن في تحاشي التطرُّف في السلوك، وإيجاد الحدِّ الوسط بين طرفَين، كالشجاعة التي هي الحدُّ الوسط بين رذيلة الجبن، ورذيلة التهوّر، وكالكرم الذي هو الحدُّ الوسط بين البخل والتبذير، وأن الحُكْم ينبغي أن يكون بيد الرجل الأكثر تميُّزاً، أي الأسمى بطبيعته، وأنّ رجل الدولة لا بدَّ أن يختار مجموعة من الخصال، كالشجاعة والعدالة والتحكُّم بالذات، ليكون، بحقّ وجدارة، رجلاً ذكياً ومميُّزاً.

والمسألة من الظهور الواقعي لا تحتاج إلى كثير من بحثٍ نظري، فوظيفةٌ على مستوى ربّ أسرة، تتطلب تقديم المسؤولية على النزعات الشخصية، أو الأهواء الذاتية؛ حتى تستقيم الأسرة، وجوداً واستمراراً؛ فكيف برئيس الدولة الذي له من الصلاحيات والسلطة ما لا ينجو من تأثيرهما أحد؛ فضلاً عن أن تتمكّن الأمة، ككل، من تجاهُله، أو تهميشه. وهنا ملحوظة، تتعلق برسوخ تلك السويَّة الأخلاقية، مقابل عرَضيّتها، أو طروئها؛ ذلك أن التكوين الأول، عقلياً ونفسياً، وطول الممارسة والعيش، وفق مرجعية أخلاقية مختلّة، لا بدّ يلقي بظلاله الدائمة على شخصية الرئيس، ويظلّ يتسرَّب إليها، وتجنح إليه.

كان ترامب قد تعهّد خلال حملته الرئاسية بنشر وثائق إبستين، إلّا أن إعلان وزارة العدل إغلاق الملف الأسبوع الماضي أثار غضب مؤيِّديه من حركة “ماغا” (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى)

وبرغم أن الإنسان الفرد، كثير التفلُّت، على صعيد الممارسة، من القيم الأخلاقية، إلّا أن الإنسان، فرداً وجماعة، ومجتمعاً، ينتظر من حاكمِه صورةً تتسامى على النزعات الشخصية، للصالح العام، وهذا الحاكم حين يمارس الحكم، وحين يُنْفِذ قراراته، محتاجٌ ما هو أوسع نطاقاً من ذاتيّته وأهوائه، حتّى في شؤون السياسة الخارجية، ومع الأعداء.

في الولايات المتحدة لا اشتراطات كثيرة فيمن يحقُّ له الترشُّح لمنصب الرئيس، فلا شرط ينصّ على أهلية أخلاقية وبراءة جُرْمية، وحول أهلية المرشّح، وإمكان تورُّطه بجرائم وجنايات، يقول ديريك مولر أستاذ قانون الانتخابات في كلية القانون بجامعة “نوتردام”: “الدستور لا يذكر هذه الأشياء”… “يمكن للناخبين بالتأكيد أنْ يأخذوا ذلك في الاعتبار، لكن هذا أمر مختلف عن القول إنك ممنوع من تولِّي أيِّ منصب”.

ومن دون أنْ نزعم أنَّ النزاهة الأخلاقية هي الحاسمة، أو المتفرِّدة في اختيار الناخب الأميركي؛ إذ يمكن للمرشَّح لمنصب الرئيس أن يغلِّب اعتبارات أخرى، قومية أو اقتصادية، إلّا أنّ ظهور المرشّح خِلْواً من الحدِّ الأدنى من اللياقة الأخلاقية مِن شأنه التأثير على حظوظه، وإلّا لما أولى أيُّ مرشَّح كبيرَ عنايةٍ لصدّ الاتهامات الموجَّهة إليه من خصومه ومنافسِيه.

ومع أن الدستور الأميركي لا يشترط صراحة، في الرئيس، حُسْن السيرة والسلوك، إلّا أن أيَّ مرشّح لمنصب الرئاسة يكون حريصاً على نفي أيِّ اتهام يعرِّض بنزاهته، وتوازنه الأخلاقي، وتمثُّله القيم الأخلاقية الأميركية، فالوثيقة التأسيسية لا تذكر، مثلاً، مسألة الإدانات الجنائية، أي لا مانع أمام أي شخص مدانٍ بارتكاب جرائم متعدّدة، أو تُهَم جنائية أخرى، من أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة.

 يصعُب علينا أن نتصوَّر العالم، يحكمه قادة يسهل ابتزازُهم ومساومتهم مثل ترامب

حصل ذلك، مثلاً، مع الرئيس الأميركي (الجمهوري) الأسبق جورج بوش الابن، حين حرص على درْء ضرر واقعة قيادته السيارة، وهو تحت تأثير الكحول، وقد استغلّ خصوم بوش هذه الواقعة لتصويره أنه الشخص غير الملائم لتولِّي هذا المنصب، فقال حينها: “لستُ فخوراً بذلك… لقد ارتكبت بعض الأخطاء… وفي بعض الأحيان كنت أُفْرِط في احتساء الكحول، وهذا ما حدث في تلك الليلة… لكنني تعلّمت الدرس”. وكان لهذا الخبر لصالح منافسه الديمقراطي، آل غور؛ إذ فاز بالتصويت الشعبي في عام 2000.

وفي ما يتعلق بالرئيس دونالد ترامب، يتداول الإعلام الأميركي موادّ ووثائق تثبت علاقة خاصة له بجيفري إبستين المتَّهم بارتكاب ورعاية جرائم جنسية بحقِّ أطفال، وغيرهم، ومِن أجدد ذلك ما فجّرته صحيفة وول ستريت جورنال، إذ ذكرت أنها اطّلعت على رسالة للرئيس ترامب ضمن مجموعة من الرسائل الفاحشة الموجَّهة إلى إبستين في عيد ميلاده الخمسين عام 2003، ضمن وثائق أكَّدت الصحيفة أنها اطلعت عليها. ووصفت الصحيفة الرسالة التي تحمل توقيع ترامب بأنها “فاحشة”. وهاجم ترامب مؤيديه، لأول مرة، هذا الأسبوع بعد رفضهم تجاهل قضية إبستين والاقتناع بمبرّرات وزارة العدل، وألقى باللوم على الديمقراطيين، قائلاً إنّ ملف إبستين “خدعة من صنع الديمقراطيين”. وكان ترامب قد تعهّد خلال حملته الرئاسية بنشر وثائق إبستين، إلّا أن إعلان وزارة العدل إغلاق الملف الأسبوع الماضي أثار غضب مؤيِّديه من حركة “ماغا” (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى).

مثل هذا الرئيس المتلبِّس بما يشين، والمتشبّع بمثل تلك السيرة المخلِّة، يقود اليوم الولايات المتحدة، ويسعى إلى إحكام سيطرة بلاده على العالم، ومنه عالمنا العربي… وفيما لا نتوقع في عالم اليوم والسياسة رؤساءَ دول على مستوى رفيع من الأخلاق، مع أنّنا لا نعدمهم، تماماً، فإنّنا كذلك يصعُب علينا أن نتصوَّر العالم، يحكمه مثل هذا الطراز من القادة، ممَّن يسهل ابتزازُهم، ومساومتهم؛ ما يخلّ بأيِّ متطلب من متطلبات التوازن الضروري، في قضايا إنسانية، وفي شؤون استراتيجية، كما تشهد غزّة، من أفعال يندى لها جبين الإنسانية، وكما تتطاول دولةُ الاحتلال وتعربد في سورية، دون رادع أو زاجر، مستغلَّةً حالة الخلخلة والاضطراب الداخلي، ومستفيدة من علاقتها بترامب، وهو الرئيس المتفرِّد، في القرارات، وغير واضح الرؤية والاستراتيجيات، وفي عمق شخصيته اضطراباتٌ تباعِد بينه وبين أيِّ مرجعية متسقة، سوى المصلحية الحادَّة، والنفعية المُنْبَتّة عن أيِّ سياقات معهودة، أو تواضعات ضرورية.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى