
تجاوزت رسالة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، أخيراً، بمناسبة الذكرى الـ63 لاستقلال الجزائر (5/7/1962) عبارات التهنئة. جاء فيها حديث عما حققته الولايات المتحدة والجزائر معاً من إنجازات “لصالح الاستقرار الإقليمي ومجهودات في مجال مكافحة الإرهاب وأخرى من أجل تأمين الحدود لفائدة أمننا المشترك وعلاقاتنا الاقتصادية”. وشدّد ترامب على أن التعاون الحالي بين البلدين يمرّ بمرحلةٍ حاسمةٍ لإيجاد مستقبل “أكثر ضماناً وأكثر ازدهاراً للأميركيين كما للجزائريين”.
تعمل الجزائر والولايات المتحدة على تعزيز التعاون في المجالات العسكرية والاقتصادية. وتصدّرت قطاعات الدفاع والطاقة والفلاحة والعلوم والتكنولوجيا قائمة المجالات ذات الأولوية، وفق تصريحات لوزيري خارجية البلدين في مناسبات عديدة. وقد مرت العلاقات منذ فترة ترامب الأولى بحالة من الترقب، اعترضتها مشكلتان كبيرتان: الأولى تتعلق بالقضية الفلسطينية، التي زادتها الأوضاع البائسة للفلسطينيين في غزّة تعقيداً، وقضية الصحراء الغربية. إذ سعى الرئيس الأميركي في ولايته الأولى لفرض “اتفاقيات أبراهام” على الدول العربية من أجل التطبيع مع إسرائيل، وافقت بعض الدول، وعارضتها الجزائر التي عبّرت على لسان رئيسها عن رفض منطق الهرولة إلى التطبيع على حساب القضية الفلسطينية. وجاءت حرب الإبادة التي تقترفها إسرائيل على قطاع غزّة منذ عامين، ليقف ممثل الجزائر في مجلس الأمن مندّداً بهذه الأعمال الشنيعة، ومدافعاً عن الحقوق المشروعة للفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة.
شهدت الفترة الأولى لترامب توتّراً بين الجزائر وأميركا، بعد قراره الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية مقابل اعتراف الرباط بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها
شهدت الفترة الأولى لترامب توتّراً بين البلدين، بعد قراره الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية مقابل اعتراف الرباط بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، وزاد الأمر تعقيداً بالنسبة إلى الجزائر انضمام بريطانيا وفرنسا لاحقاً إلى الولايات المتحدة، ما يعني أن ثلاثاً من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن باتت تدعم الخطة المغربية للصحراء الغربية، وتدافع الجزائر كما هو معروف عن “حق الصحراويين في تقرير مصيرهم” وفق مقررات الأمم المتحدة، وتبدي رفضها المطلق لخطة الحكم الذاتي المغربية.
وفرضت التحوّلات السياسية والاستراتيجية العالمية عقب الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وحرب الرسوم الجمركية التي تقودها الولايات المتحدة ضد الحلفاء والخصوم، مرحلة جديدة من بناء المصالح، وبرزت أفريقيا إلى السطح، وهي التي لا يهتم الرئيس ترامب بها كثيراً. وإن لم تغب الولايات المتحدة عن أفريقيا، وشمالها خصوصاً، لكن انحسار المد الاستعماري القديم عن أفريقيا، اقتصادياً وعسكرياً، والذي كان أبرزه خروج القوات الفرنسية من منطقة الساحل، وتعويضها بقوى أخرى، اقتصادياً الصين (أقامت الصين استثمارات ضخمة في البنية التحتية في منطقة الساحل)، وعسكرياً روسياً، كلها أمور عجلت من رغبة واشنطن في إيلاء اهتمام أكبر للقارة السمراء، ومنع التوسّع الصيني الذي تحاربه في كل أنحاء العالم.
كانت الجزائر دائماً تتبنى الحياد في علاقاتها الدولية، ولكنها انتبهت إلى أن تنويع شراكاتها الاقتصادية والعسكرية أجدى وأنفع لها
أول الشركاء الاقتصاديين للجزائر في مجال الطاقة منذ الاستقلال واشنطن، لكن العلاقات الاقتصادية في المجالات الأخرى بقيت تراوح مكانها، نظراً إلى الاختيارات الاقتصادية الاشتراكية التي كانت تنتهجها الجزائر أعواماً طويلة. تغير المنهج الاقتصادي في الجزائر، وإنْ ما زالت تعتريه أسقام إدارية، وبيروقراطية مثبطة للهمم. ومع بداية الولاية الجديدة لدونالد ترامب، وقعت الجزائر مع شركة “شيفرون” الأميركية اتفاقية للتنقيب عن المحروقات في المناطق البحرية الجزائرية، وهذا غير مسبوق. وفي نهاية الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) زار كبار مسؤولي “إكسون موبيل” و”شيفرون” الجزائر، لبحث فرص شراكة واستثمار في مجالات الطاقة والمحروقات والمناجم. يضع تحالف الشركتين احتياطيات الغاز الصخري في الجزائر نصب عينيه، ويسعى لتطويرها بالتعاون مع شركة سوناطراك الحكومية. وتحتل الجزائر المرتبة الثالثة بين أكبر عشر دول تملك احتياطيات غاز صخري قابلة للاستخراج، حسب وحدة أبحاث منصة الطاقة الصادرة في واشنطن. وفي جنوب الجزائر أيضاً، اكتُشف منجم لمادة الليثيوم، وهو من المعادن النادرة التي تخوض الولايات المتحدة بشأنه معركة حامية مع الصين. ويُعتمد عليه في صناعة البطاريات والسيارات الكهربائية. ترفض وزارة الطاقة والمناجم الجزائرية تصدير الليثيوم مادةً خاماً، وهي تسعى لبناء مصانع محلية لصناعة البطاريات مع مستثمرين أجانب، ومن شأن ذلك أن يُقلل من اعتماد صناعة السيارات الأوروبية على الليثيوم الصيني. وفي هذا الشأن، لا تخطئ عين الاستثمار الأميركية الفرصة، خصوصاً بعد اعتماد الجزائر تشريعاً جديداً لتنظيم قطاع التعدين وتعزيز الاستثمارات، يساوي بين المستثمر الأجنبي والوطني في الحصول على تراخيص الاستغلال، ويخفض حصة الدولة في مشاريع المناجم إلى 20% فقط، ما يعني عملياً أن الشركات الأجنبية يمكنها الاستحواذ على 80% من حقوق الاستغلال.
وفي مسألة الأمن الإقليمي، جددت الولايات المتحدة مع بداية الولاية الثانية لدونالد ترامب، علاقاتها في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل مع الجزائر، إذ هناك رغبة أميركية في تعزيز دورها في الساحل الأفريقي بعد الانسحاب الفرنسي، والحضور الروسي الصيني في المنطقة، وتفضّل تحقيق ذلك عبر شراكات محلية. وقّعت الجزائر مذكرة تفاهم في التعاون مع القيادة العسكرية الأميركية لأفريقيا (أفريكوم). وقال قائدها الفريق أول مايكل لانغلي يومها إنها “تؤسس لجميع الأهداف الأمنية المشتركة التي بُنيَت بين البلدين منذ سنوات، وتسمح بتعميق أكبر لهذه العلاقة من أجل تعزيز الأمن والسلم الإقليمي والدولي”.
منذ خروج الجزائر من أزمتها الأمنية مع بداية الألفية الجديدة، ومنذ انخراط الولايات المتحدة في محاربة شبكة القاعدة بعد أحداث 11 سبتمبر (2001)، عرف التعاون الأمني بين البلدين تطوّراً ملحوظاً. ولكن هل سيؤثر التقارب الجزائري الأميركي في هذا المجال بشريكَي الجزائر التقليديين، الصين وروسيا. كانت الجزائر دائماً تتبنى الحياد في علاقاتها الدولية، ولكنها انتبهت إلى أن تنويع شراكاتها الاقتصادية والعسكرية أجدى وأنفع لها، خصوصاً بعد أن فاجأتها روسيا بتدخلها عسكرياً في الساحل، وتعويضها فرنسا عند جارتها الجنوبية مالي. كذلك إن عدم قبول عضوية الجزائر في منظمة بريكس الذي تتزعمه كل من موسكو وبيكين كان له أثر في قرارات قصر المرادية في شؤون الاقتصاد والتحالفات.
المصدر: العربي الجديد