يعتقد العديد من المراقبين أنّ الخاسرين الوحيدين من الاتفاق الجديد بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة هم المدافعون عن إيران، ومعارضو القيادة الأمريكية في المنطقة، ومعسكرات مماثلة. ومع ذلك، يعتبر أحد حلفاء الولايات المتحدة نفسه الخاسر الأكبر. ويبدو أن القادة المصريين قلقون بشكل واضح بشأن اتفاق التطبيع، لأنه بلا شك يهدّد إبعادهم عن دورهم الطويل الأمد كمحاورين عرب أساسيين مع إسرائيل.
وبالفعل، كانت مصر ركيزة أساسية في عملية السلام في الشرق الأوسط لعقود من الزمن، وقد منحتها معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979 نفوذاً كبيراً مع واشنطن والعواصم الأوروبية. لكن الاتفاق الجديد مع الإمارات عزّز اعتقاد القاهرة بأنّ مركز القوة في العالَم العربي بدأ يتحوّل نحو [دول] الخليج في السنوات الأخيرة. وسيؤدي كلاً من التعاون العليمي والتبادل السياحي والتعاون الأكاديمي، والتي من المتوقع أن تتبع الإعلان بسرعة إلى زيادة خفوت نفوذ مصر، لا سيما بالنظر إلى القدرة المالية والتكنولوجية لدولة الإمارات على تسريع مثل هذه المبادرات.
رد مصري صامت
بعد وقت قصير من إعلان القادة الأمريكيين والإماراتيين والإسرائيليين عن الاتفاق التاريخي، غرّد الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي مهنّئاً الأطراف الثلاثة جميعاً. ومع ذلك، ردت القنوات التلفزيونية والصحف المصرية وكأنّ شيئاً لم يحدث – حتى مع احتفال قناة “سكاي نيوز عربية” ومقرها الإمارات بالاتفاق وإضفائها الشرعية عليه باستخدامها صور من الزيارة التاريخية للرئيس المصري السابق أنور السادات إلى القدس.
وبالمثل، لم يعلّق على الاتفاق حتى الآن سوى القليل من كتاب الاتجاه السائد الموالين للحكومة في مصر. ومن بين هؤلاء الصحفي المخضرم عماد أديب، الذي تربطه علاقات وثيقة بالدوائر الداخلية الإماراتية، الذي كتبَ مقالاً افتتاحياً لصحيفة “الوطن” أشاد فيه بالاتفاق وشرح الحكمة وراء قرار أبوظبي. وفي المقابل، اعتبر جلال دويدار، الكاتب في صحيفة “أخبار اليوم” المملوكة للدولة، أن الاتفاق لا يعزز الحقوق الفلسطينية، بل بدلاً من ذلك يستخدمها كغطاء للتطبيع مع إسرائيل. وشكّك الكاتب في صحيفة “الأهرام” المملوكة للدولة صلاح منتصر في نوايا إسرائيل وما إذا كانت ستوقِف حقّاً عملية ضمّ الضفة الغربية. ومع ذلك، فإن معظم مذيعي التلفزيون المصري بالكاد ذكروا الاتفاق، وبدت خيبة الأمل على أولئك القليلين الذين قاموا بذلك (على سبيل المثال، لم يتمكن الإعلامي الموالي للحكومة في قناة “صدى البلد” حمدي رزق من السيطرة على مشاعره واندفع قائلاً، “إسرائيل تسجّل أهدافاً ضدّ العرب”).
ومن بين الدبلوماسيين المصريين السابقين، كتبَ عمرو موسى على موقع “فيسبوك” أنّ الدول العربية الأخرى التي تتطلع إلى التطبيع مع إسرائيل يجب أن تضغط لتحقيق مكاسب فلسطينية إضافية إلى جانب إيقاف عملية الضمّ. وخلال مقابلة على قناة “آر تي”، أشار مساعد وزير الخارجية الأسبق، محمد مرسي، إلى عدم موافقته على الاتفاق حيث قال إنه كان يجب أن يتم من خلال “التفاهم والتنسيق العربي المتبادليْن”.
وفي المجال السياسي، لم يعلّق البرلمان المصري على الاتفاق، على عكس عادته في دعم الخطوات الإماراتية علانية ضد قطر وتركيا. ولم يُصدر أي حزب سياسي بياناً فردياً أيضاً. لكن الشخصيات الموالية للحكومة التي لم تعلّق على الاتفاق بحدّ ذاته انتقدت رغم ذلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسبب التهديدات التي أطلقها بعد الإعلان عنه.
وهناك عاملان رئيسيان قد يفسّران رد مصر الصامت نسبياً. أوّلاً، فؤجئت الحكومة على حين غرّة، وربما لا تزال تحاول احتساب خطواتها التالية قبل التفوّه بالمزيد علناً. وإذا كان الأمر كذلك، فقد لا يكون لدى موظفي الدولة المسؤولين عن الاتصالات الإعلامية تعليمات واضحة حتى الآن حول الرسالة التي يتعيّن نشرها. ثانياً، تأتي معظم الشخصيات الإعلامية الرئيسية في مصر من خلفية ناصرية يسارية تُعارض بشدّة التطبيع مع إسرائيل. ومهما يكن السبب، فإن الرد الصامت لوسائل الإعلام الرسمية يتعارض مع الانتقادات الواسعة للاتفاق، والتي عبّر عنها معلّقون مصريون على وسائل التواصل الاجتماعي وشخصيات مصرية في الشتات خارج سيطرة الحكومة، من بينهم بعض أعضاء جماعة «الإخوان المسلمين» في الخارج.
القاهرة تعرف أنها ليست الخيار الوحيد المتاح
إلى جانب تأجيج المخاوف بشأن ترك مصر خارج صفوف القوى المتغّيرة في المنطقة، من المحتمل أن يكون الاتفاق الإماراتي قد أحرج السيسي أمام مؤيديه الأساسيين من النخبة. ويبدو أنّ بعض الشخصيات المصرية على الأقل تعتقد أنه أضاع فرصةً تاريخيةً ليكون القوة الرئيسية التي تقود التطبيع في المنطقة. على سبيل المثال، أعرب المفكّر عبد المنعم سعيد علي عن أسفه للمقاطعة العربية التي طال أمدها ضد إسرائيل، مشيراً إلى أنها “لم تؤذي إسرائيل أبداً بأي شكلٍ من الأشكال”.
ويقيناً أن القاهرة تدرك أنها لم تكن جزءاً من برنامج السلام الخاص برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في الشرق الأوسط منذ بعض الوقت، وأنها لم تعد قادرة على الاعتماد على بطاقة التطبيع كوسيلة ضغط ضدّ إسرائيل. ومع ذلك، لم تتوقع منه أبداً تحقيق التطبيع مع قادة الخليج بهذه السرعة. والآن قد تتوقع أن تحذو المزيد من دول الخليج حذو الإمارات في السنوات الخمس القادمة، وربما السودان والمغرب كذلك.
ومما يثير قلق القاهرة أيضاً هو واقع عدم قدرتها على التنافس مع الإمارات في مبادرات التطبيع لأنّ الإماراتيين يملكون الكثير من الأموال الإضافية وباستطاعتهم إبرام اتفاقيات تجارية مع إسرائيل بسرعة أكبر. وبالفعل، بعد يومين من إعلان اتفاق السلام، وقّعت الشركة الإماراتية “أبيكس الوطنية للاستثمار” (APEX National Investment) اتفاقاً تجاريّاً استراتيجيّاً مع مجموعة “تيرا” (Tera Group) الإسرائيلية لإجراء أبحاث حول مرض “كوفيد-19”. والأسوء من ذلك بالنسبة للقاهرة، أنه سيتم قريباً ترتيب زيارات إلى المسجد الأقصى في القدس عن طريق أبوظبي، مما يضيف رونقاً إلى سمعة الإمارات.
[ومع ذلك]، لا ينبغي لهذه المخاوف أن تلقي بظلالها على الجوانب المهمة من التعاون المصري-الإسرائيلي التي لا تزال سارية. وعلى وجه الخصوص، ستبقى القاهرة شريكاً رئيسياً في مكافحة الإرهاب في سيناء، وتسهيل محادثات غزة، وتعزيز مشاريع الغاز الطبيعي.
التداعيات على السياسة الأمريكية
كانت السياسة الخارجية المصرية تشقّ طريقها بجهدٍ في السنوات الأخيرة، ابتداءً من تراجع موقعها بالنسبة للإمارات وروسيا في ليبيا، مروراً بمكانتها في الجانب الخاسر في أزمة سدّ النهضة، ووصولاً إلى طلب المساعدة الفرنسية واليونانية لمواجهة تركيا في شرق البحر المتوسط. ولكي تحفظ القاهرة ماء الوجه وتعيد التأكيد على أهميتها في المنطقة، قد تحاول بالتالي إقناع واشنطن باستئناف المحادثات الإسرائيلية-الفلسطينية عاجلاً وليس آجلاً.
لكن رداً على ذلك، يجب على واشنطن أن توضِّح أنّ ما سيُملي مستقبل صنع السلام هو التطبيع الإقليمي. بعبارة أخرى، ستحتاج مصر إلى الانضمام إلى معسكر التطبيع بعد مماطلتها لسنوات، وإلا سترى استمرار تراجع هيبتها ونفوذها الدولي. فالقاهرة لم تكن جادة بشأن التطبيع مع إسرائيل منذ سنوات. وحتى وقتٍ قريب، على سبيل المثال، اتّبعت سياسات عدائية مثل تجريد المصريين الذين يعيشون في إسرائيل من جنسيتهم، ومنع الاتصال بالأكاديميين الإسرائيليين، واحتجاز المصريين الذين يتجرّؤون على حضور الفعاليات الثقافية التي تُقيمها السفارة الإسرائيلية، ورعاية البرامج التلفزيونية التي تصوّر اليهود والإسرائيليين كأشرار، والأهم من ذلك، منع المزيد من التطبيع الاقتصادي في بعض المجالات مثل السياحة والزراعة والمياه. يجب وضع حدٍّ لهذه السياسات إذا أرادت القاهرة أن تكون وسيطة أساسية للسلام ولاعبة إقليمية رئيسية في النموذج العربي-الإسرائيلي المتغيّر.
@هيثم حسنين هو زميل “غليزر” السابق في معهد واشنطن، ومحلل لشؤون الشرق الأوسط حيث يركز على الدبلوماسية التجارية والقضايا ذات الصلة.
المصدر: معهد واشنطن