لا وجهة للسويداء سوى دمشق… أية دمشق؟

عمر قدور

لم تكد السيطرة على حرائق الجبال تستتب حتى اندلع حريق من نوع آخر في السويداء، حريق قيل إن شرارته اندلعت بسبب حادثة خطف قام بها البدو على طريق دمشق-السويداء، ثم حدثت عمليات خطف متبادلة بين الدروز وعشائر البدو. وأخيراً، صباح الاثنين، أعلنت وزارة الداخلية عن إرسال قواتها إلى جانب قوات تابعة لوزارة الدفاع، من أجل “بسط الأمن”، متوعّدةً بإنهاء التصعيد الأمني بحلول عصر اليوم نفسه.

حوادث الاشتباك تحدث من حين لآخر بين العشائر الموجودة على تخوم السويداء والأهالي، ومن المعلوم أن فضّ الاشتباك والصلح يكون متيسّراً ما لم تكن مدفوعة أصلاً من قبل السلطة. هذا ما كان عليه الحال طوال عقود من حكم الأسد، واليوم تُستحضر الشكوك القديمة حول دور السلطة، لأن تدخّل الأخيرة سبقه نشاط لأنصارها على السوشيال ميديا، توعّدوا من خلاله السويداء بإخضاعها بعدما حافظت على بقائها خارج القبضة القوية للمركز، وهي وضعية سابقة على إسقاط الأسد.

أي أن الفهم الذي ساد هو وجود قرار لدى السلطة لإخضاع السويداء، والقرار (حسب الفهم نفسه) مسنود بموافقة دولية، أو إسرائيلية إذا توخّينا الوضوح. فمن المعلوم أن تل أبيب كانت قد وضعت خطاً أحمر لتحرك قوات وزارة الدفاع، يبدأ من جنوب دمشق، وتوعّدت صراحةً باستهداف قوات وزارة الدفاع إذا تجاوزته. ذلك كان قبل تغيير اللهجة الإسرائيلية، وقبل التسريبات عن تقدّم في المفاوضات بين تل أبيب ودمشق، والتي أشيع أن سفر الرئيس الانتقالي، إلى الإمارات ثم أذربيجان، كان مرتبطاً بها.

قوات وزارة الداخلية والدفاع لا تدخل أرضاً منفصلة عن سوريا، إذ ليس في السويداء من نوايا انفصالية عن سوريا، ولا أفق لوجودها. بل إن العلاقات بين السويداء والمركز لم تنقطع إطلاقاً على الصعيد الحكومي، ومن المألوف تكرار مطالبات الأهالي بمزيد من حضور المؤسسات الخدمية. الخلاف هو على الوجود العسكري والأمني، والصيغة التي تطالب بها رموز أهلية (دينية وعسكرية) تتمحور حول الإبقاء على الفصائل المحلية، بحيث تنضوي تحت راية وزارتي الدفاع والداخلية، وتكون مهمتها الحفاظ على الأمن في المحافظة.

وكانت نبرة المطالبات السياسية قد تصاعدت على خلفية مؤتمر الحوار الوطني ثم الإعلان الدستوري، وقد أتى الأخير إثر أحداث الساحل والمجازر التي حدثت هناك، ما دفع زعامات محلية في السويداء للتصلّب إزاء مطلب الخضوع التام للمركز. وبالتأكيد أتت لاحقاً أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا لتعزز المخاوف التي زرعتها مجازر الساحل. لكن يمكن القول إن منسوب الاحتقان عاد إلى التراجع، وكانت الأوضاع مستقرة في الأسابيع الأخيرة إلى حدّ لا يمهّد للتصعيد الأخير.

المعطيات الواقعية الثابتة تجعل الزعامات المحلية في السويداء أميَل إلى التهدئة، فالمحافظة صغيرة جغرافياً، ومحدودة الموارد، مما لا يضعها على خط تحدي العاصمة. في الواقع، لا وجهة للسويداء سوى دمشق، والخلاصة هذه تحكم الحراك السياسي فيها، لتبقى حدود مطالبه ضمن الوجهة ذاتها. والرائج الذي يضع الدروز والسويداء كأولياء للوطنية السورية يتغذّى جزء منه على إرث سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى، أما استمرارية التغنّي به فهي نابعة من حتمية التوجّه إلى دمشق بوصفها رمزاً الوطن السوري. السؤال الراهن، السؤال الذي كان دافعاً لانطلاق الثورة عام 2011، هو: أية دمشق؟

للسويداء مطالبات تتعلق بنظام الحكم في دمشق، ومعظمها على الإطلاق ليس فيه مطالب فئوية أو طائفية، ومعظمها أيضاً غير طارئ على الحراك السياسي في المحافظة، وإنما هو في صميم انتفاضة السويداء ضد الأسد، ويتوافق مع الشعارات الأولى للثورة المنادية بالحرية والديموقراطية. إخضاع السويداء يعني فيما يعنيه عدم الاكتراث بتلك المطالب، وعدم مناقشتها حتى؛ سواء من قبل السلطة أو أنصارها.

فكرة الإخضاع قائمة أساساً على اختراع قناعة وجعلها بمثابة بديهية، هذه القناعة تمنح السلطة الحالية في دمشق شرعية مسبقة، رغم عدم نيلها الشرعية عن طريق اقتراع شعبي ديموقراطي. يتفرّع عن جعل هذه المغالطة بديهيةً تجريمٌ لخصوم السلطة باعتبارها أيضاً رمزاً للوطن السوري، وكذلك تجريمٌ انتقائي للميليشيات التي  تسبب بوجودها الصراع العسكري ما بعد اندلاع الثورة.

اختراع البديهية هو موافق للاعتقاد بأن السلطة الحالية ورثت حكم سوريا، كما كانت عليه قبل اندلاع الثورة، وأصحاب الاختراع لا يريدون التفكير في النظام السياسي المناسب كمدخل لتوحيد سوريا. هم بالأحرى يريدون سوريا موحَّدة، ولا يريدون سوريا متحدة. سوريا الموحّدة هي سوريا القائمة على الإخضاع، سوريا التي يريدها كثر لا يريدون السوريين في المقابل، لذا هم عديمو الاكتراث بما يريده غيرهم من السوريين.

احتكار السلاح واحتكار العنف بالنسبة لهؤلاء هو احتكار للسلطة، ولا علاقة له بمفهوم الدولة التي تحتكر العنف. فاحتكار العنف من قبل الدولة قائم على شرعيتها، وعلى تفويضها باستخدام العنف بموجب قوانين وضوابط معروفة ومتوافَق عليها. الدولة التي تحتكر السلاح والعنف هي دولة منبثقة عن عقد اجتماعي تقبله الأغلبية التي تمثّل الطيف الاجتماعي بأكمله، بلا إقصاء أو تهميش. السلطة التي تستخدم العنف من أجل إخضاع جزء من سكانها شأن آخر، خصوصاً إذا كان ذلك يحدث (أو لا يحدث) بموجب ما تسمح به قوى خارجية.

وثمة ظنّ شائع لدى أنصار السلطة، مفاده وجود عقبتين داخليتين أمامها، السويداء في الجنوب، وقسد في منطقة الجزيرة. ومتى تمكنت السلطة من السيطرة عليهما فهذا يقوّي مكانتها الداخلية، فضلاً عن أنه يعكس أصلاً رضا قوى الخارج عنها، وبذلك يتم تطويبها سلطة تامة على البلد بأكمله. أعين أصحاب هذا الظن مصوَّبة بشدة على الداخل، أو بالأحرى على ما يرونه أعداءً في الداخل، فلا يكترثون بالثمن الذي تدفعه السلطة لقاء تمكينها من السيطرة، رغم إقرارهم بأن توحيد الأراضي لن يحدث إلا بغطاء دولي. في حالة السويداء، لا يُسأَل مثلاً عن الثمن الذي جعل قادة تل أبيب يتراجعون عن خطهم الأحمر السابق، والذين لا يسألون ليسوا من أصحاب الواقعية في التعاطي مع موازين القوى؛ إنهم يرون إسرائيلهم في الداخل، في السويداء وسواها من المناطق أو الجماعات التي يرغبون في إخضاعها.

لن يكون جديداً أن ما يؤخذ بالإخضاع لن يُحافَظ عليه بالديموقراطية وبالمشيئة الحرة، أي أن التغيير المأمول في دمشق بعيد المنال. عليه، لن تكون مستبعدة عودة الصراع السوري على ماهية دمشق، بعدما تتمكن السلطة من فرض سطوتها على البلد بأكمله. قد يفتح توحيد البلد على السلطة باباً واسعاً للمساءلة المؤجَّلة بسبب حالة التفكك، فسَكْرة الانتصارات ستزول، وستفقد السلطة أعداءها الذين كانت تتذرّع بهم، وربما تكون هذه خسارتها الكبرى!

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى