جهود إسرائيلية محكومة بالفشل

داود كتّاب

من السمات المميزة للأنظمة الاستعمارية اعتمادها على استراتيجية “فرّق تسد”، وقد لجأت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مراراً إلى هذا التكتيك لتقويض الوحدة الوطنية الفلسطينية، ومحاولة لطمس الهُويَّة الوطنية الجماعية للشعب الفلسطيني، فبعد احتلال 1967 بفترة وجيزة، سعت إسرائيل إلى دعم قادة فلسطينيين موالين لأطراف عربية بدلاً من منظمّة التحرير الفلسطينية، إلا أن الأمور تغيّرت جذرياً عام 1974، عندما اعترفت الدول العربية في قمّة الرباط بالمنظمة ممثّلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. وفي العام نفسه، ألقى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات خطابه التاريخي أمام الأمم المتحدة، رافعاً (في آنٍ معاً) غصن الزيتون ومسدسه، وداعياً العالم إلى دعم السلام، ومحذّراً من محاولات كسر غصن الزيتون.
ورغم التحوّل الإقليمي والدولي لصالح منظمّة التحرير، واصلت إسرائيل جهودها لتهميش الشعور الوطني الفلسطيني. ففي ثمانينيّات القرن الماضي، بدأ تحالف متصاعد من رؤساء البلديات والمثقّفين وقادة المجتمع المدني المؤيّدين للمنظمة في الأراضي المحتلة يكتسب شعبية. وخلال سبعينيّات القرن الماضي، سمحت إسرائيل للجماعات الإسلامية، لا سيّما في قطاع غزّة، بتوسيع نفوذها قوّة موازية للفصائل الوطنية العلمانية.
وفي 1980، فخّخت خلية سرّية من المستوطنين اليهود سيارات قادة فلسطينيين، مستهدفة ثلاثة رؤساء بلديات بارزين في الضفة الغربية، وعلى الرغم من أن الهجمات لم تؤدِّ إلى مقتل أيّ منهم، فإنها تركت أثراً بالغاً، إذ فقد رئيس بلدية نابلس بسام الشكعة ساقيه، كما فقد رئيس بلدية رام الله كريم خلف جزءاً من ساقه. وبدلاً من إسكاتهم، حوّلتهم هذه الهجمات رموزاً نضالية وأبطالاً وطنيّين. وعندما فشلت أساليب الترهيب، لجأت إسرائيل إلى تكتيك استعماري آخر، تحريض الفلسطينيين القرويين ضدّ القيادات الوطنية في المدن، وتولّى مناحيم ميلسون (أستاذ في الجامعة العبرية ومستشار الحاكم العسكري الإسرائيلي) قيادة مشروع “روابط القرى”، الهادف إلى إيجاد بديل للقيادة الوطنية المتجذّرة في منظمّة التحرير، ورغم نجاح المشروع في استقطاب بعض المتعاونين، خصوصاً في محيط الخليل، فإنه قوبل برفض شعبي واسع النطاق.

انهارت عملية السلام بالكامل عام 1995، إثر اغتيال رابين على يد متطرّف يهودي. فاز نتنياهو المعارض لاتفاق أوسلو في الانتخابات، ليبدأ عهدٌ جديد طغى عليه اليمين المتشدّد

بحلول عام 1988، بلغ الغليان الشعبي ذروته، فأطلق الفلسطينيون الانتفاضة الأولى، وهي حركة مقاومة شعبية مستلهمة من تجارب سلمية مثل التي قادها غاندي ومارتن لوثر كينغ (الابن)، للمطالبة بالحرية والاستقلال. وقد ساهمت سياسة “فرّق تسد” الإسرائيلية في تمكين التيّار الإسلامي، الذي كانت إسرائيل قد دعمته في بداياته ضدّ فصائل منظمة التحرير، من التمدّد. وأسفر ذلك لاحقاً عن تأسيس حركة حماس في غزّة، التي شاركت في الانتفاضة، لكنّها ما لبثت أن سلكت مساراً أكثر تطرّفاً وعنفاً، وعملت حتى بعد اتفاقيات أوسلو (1933) لتقويض عملية السلام.
انهارت عملية السلام بالكامل عام 1995، إثر اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق رابين، على يد متطرّف يهودي. وبعد فترة وجيزة، فاز بنيامين نتنياهو، المعارض لاتفاق أوسلو، بفارق ضئيل في الانتخابات، ليبدأ عهدٌ سياسيٌّ جديد طغى عليه اليمين المتشدّد، وتوقّفت عملية السلام تماماً.
لم تُبدِ الحكومات الإسرائيلية اليمينية، التي يهيمن عليها القوميون المتديّنون، أيَّ رغبة حقيقية في التواصل مع القادة الفلسطينيين الشرعيين، لا في عهد عرفات، ولا في عهد خلفه “الأكثر اعتدالاً” محمود عبّاس. وبعد هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر (2023)، استغلّت الحكومة الإسرائيلية الوضع لشنّ حرب شاملة على غزّة، وفي الوقت نفسه، صعّدت جهودها لتهميش السلطة الفلسطينية أيضاً في رام الله، وفي مخيّمات اللاجئين في الضفة الغربية.
ورغم استمرار محاولات إسرائيل الضغط على السلطة الفلسطينية في مجال التنسيق الأمني، دأب رئيس الوزراء نتنياهو، ووزراؤه اليمينيّون المتطرّفون (أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش) على إضعاف مكانة السلطة ونزع الشرعية عنها سياسياً. كما طاولت هذه السياسة جميع الرموز والمؤسّسات المرتبطة بالهُويَّة الوطنية الفلسطينية، وقد انتقلت سياسة الإبادة السياسية من كلّ ما يتعلّق بالوطنية الفلسطينية إلى المؤسّسات غير الحكومية، وحتى المؤسّسات الدولية، بما في ذلك وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي تسعى إسرائيل إلى تفكيكها، في محاولة لطمس قضية اللاجئين وحقّ العودة.
واليوم، وبينما يتزايد الدعم الدولي لحقّ الفلسطينيين في تقرير المصير، وتستعدّ فرنسا والسعودية لعقد مؤتمر دولي رفيع المستوى (28 و29 يوليو/ تموز الجاري) حول حلّ الدولتَين، تصعّد إسرائيل جهودها لنزع الشرعية عن الهُويَّة الوطنية الفلسطينية. وفي تطور جديد قديم، بدأت الحكومة الإسرائيلية بإحياء أسلوب “روابط القرى” من خلال استدراج بعض الشخصيات العشائرية المحلّية إلى تطبيع العلاقات مقابل حوافز اقتصادية، مثل تصاريح العمل. ويهدف هذا المُخطَّط (كسابقيه) إلى تجاوز منظمة التحرير الفلسطينية، وإضعاف القيادة الوطنية في رام الله. لكن هذه الجهود، كما في السابق، محكوم عليها بالفشل.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى