أدّى الانفجار الهائل الذي وقع في بيروت في الرابع من آب/أغسطس، والذي أسفر عن مقتل 172 شخصاً على الأقل (حتى كتابة هذه السطور) وترك مئات الآلاف بلا مأوى، إلى اندلاع لحظة سياسية كما حدث في انفجار آخر قبل 15 عاماً: التفجير الذي استهدف وأودى بحياة رئيس الوزراء آنذاك رفيق الحريري.
وفي ذلك الحين، كما هو الحال الآن، سرعان ما تحوّل الحزن إلى غضب. ففي عام 2005، انتفض اللبنانيون الغاضبون مطالبون بتغيير سياسي جذري، وليس إصلاحات تجميلية، واليوم هم ينزلون من جديد إلى الشوارع. لكن هناك فرق رئيسي. في عام 2005، كان البيت الأبيض مستعداً وقادراً على لعب دور ذكي وفعال في نهاية المطاف، لمساعدة الناشطين المحليين على ترجمة مشاعرهم الحقيقية ورغباتهم إلى إجراء انتخابات جديدة وتشكيل حكومة جديدة. لكن اليوم، تكتفي واشنطن بالاضطلاع بدور ثانوي تاركةً القيادة لرئيس فرنسي نشط ولكن متردد – وهو ترتيب لن ينتج عنه بالتأكيد التغيير الذي يتوق إليه معظم اللبنانيين.
ويضغط الفرنسيون من أجل المصالحة والتوافق بين جميع الأطراف، مع تشكيل حكومة وحدة وطنية من نوع ما، من شأنها فقط أن تحافظ على الوضع الراهن وتقدّم كبش فداء – مثل حكومة حسان دياب، التي استقالت بشكل جماعي في العاشر من آب/أغسطس – لتهدئة الشوارع. ومع ذلك، يحتاج اللبنانيون إلى حل أكثر جذرية. ولن تؤدي استقالة الحكومة إلى تغيّر النظام طالما تحافظ النخب السياسية نفسها بصلاحياتها وسلطتها على المؤسسات الأخرى.
وكان لبنان بالفعل في خضمّ أزمة اقتصادية وسياسية لم يسبق لها مثيل عندما وقع الانفجاران المزدوجان. إنها أزمة حادة للغاية لدرجة أنها بدأت بالفعل في إحداث تضخم مفرط ومجاعة في بلد واجه 15 عاماً من الحرب الأهلية دون التعرض لمثل هذا الدمار الاقتصادي. واستمرت هذه الأزمة بسبب جشع طبقة سياسية ترفض حتى إجراء أدنى درجات الإصلاحات التي يطالب بها “صندوق النقد الدولي” الذي يرغب فعلياً في منح المال إلى البلاد.
ويبدو أن فرنسا تتولى زمام المبادرة في الوقت الحالي، كما أظهرت الزيارة الرمزية التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت الأسبوع الماضي، والتي أعقبتها خطوته السريعة لبدء اجتماع المانحين الدوليين يوم الأحد. وقد تعهدت الدول أساساً بتقديم 250 مليون يورو (حوالي 300 مليون دولار).
وبينما تحذو دول أخرى حذو فرنسا، لا بدّ من أخذ أمرين في الاعتبار: أولاً، لم يكن انفجار مرفأ بيروت كارثة طبيعية، ولا يجب التعاطي معه على هذا الأساس. لذلك، بقدر ما تعتبر المساعدات الإنسانية حيوية لمساعدة اللبنانيين على النهوض من جديد، تكتسي المحاسبة (المساءلة) أهمية أكبر على المدى الطويل، وهذا تحديداً ما يدعو إليه المحتجون اللبنانيون في الشوارع.
ثانياً، لم يعد الشعب اللبناني يثق بحكومته، التي كان عدم كفاءتها أحد الأسباب المحتملة للانفجار. لذلك يجب ألا تمرّ المساعدات بأي حال من الأحوال عبر المؤسسات الحكومية أو المنظمات والجمعيات الخيرية السياسية.
وسوف يمنع النظام السياسي الفاسد بشدة وصول المساعدات إلى الشعب الذي يحتاجها. وقام أساساً عدد من المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية – مثل “الصليب الأحمر اللبناني” – بتقديم الإغاثة والمساعدة على أرض الواقع منذ اليوم الأول. فقد كانت هذه المنظمات أولى الجهات المستجيبة ولديها بنية تحتية ومعرفة بالحالة على أرض الواقع. وإذا مرّت المساعدات عبر هذه المنظمات، فإن احتمال وصولها إلى المستفيدين المناسبين أكبر بكثير.
واذا كانت الحكومة اللبنانية تطالب بمساعدة دولية، فعليها إذاً قبول إجراء تحقيق دولي. بإمكان الولايات المتحدة تولي زمام المبادرة فيما يتعلق بهاتين المسألتين المرتبطتين بالسياسة في الوقت الذي تنسق فيه مع الفرنسيين بشأن مبادرة إنسانية.
وتحاول فرنسا إرساء توازن صعب: حشد المجتمع الدولي لدعم لبنان مع ممارسة الضغط على الزعماء السياسيين اللبنانيين لتنفيذ الإصلاحات للسماح بإرسال المزيد من المساعدات.
إلّا أن ماكرون أوضح في بيانه الصحفي في ختام زيارته لبيروت أنه لن يصيغ حلاً سياسياً للبنان، وأن الأمر متروك للبنانيين لبنائه، مما يتيح الفرصة لكل من النخبة السياسية للتوصل إلى حل وسط ولحركة الاحتجاج إلى إعادة تنظيم الانتخابات المقبلة والإعداد لها.
لكن النخبة اللبنانية لن تتحرك دون ضغوط، كما أن السلطات لن تتردد في استخدام العنف لقمع الاحتجاجات. وبالنسبة للعديد من اللبنانيين، إنه وضع صعب لا يمكن التغلب عليه إلا إذا تعرضت السلطات لضغوط كما حصل في عام 2005 – من خلال وجود أمريكي قوي في المنطقة ورسالة واضحة جداً من الولايات المتحدة إلى السلطات اللبنانية – حين أُرغمت الحكومة على الاستقالة وتمّ تنظيم انتخابات مبكرة. ولسوء الحظ، ليس هناك ما يشير إلى مبادرة دولية في هذا الاتجاه.
بإمكان التحقيق الدولي وحده تحقيق المساءلة والعدالة الحقيقيين. وقد سبق أن رفض الرئيس اللبناني ميشال عون هذا الاقتراح، كما كان متوقعاً. ولا يقتصر الأمر على قيام فريق تحقيق دولي بمحاسبة الكثيرين في المؤسسة السياسية، بل يمكنه أيضاً كشف النقاب عن سيطرة «حزب الله» («الحزب») ووجوده وتواجد منشآت تخزين تابعة له في مرفأ بيروت – حتى لو لم يكن للحزب علاقة بـ 2750 طناً مترياً من نترات الأمونيوم المخزنة في المرفأ.
وعلى الرغم من أنه من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت ملكية شحنة نترات الأمونيوم تعود لـ «حزب الله»، إلا أن هناك العديد من العوامل التي تشير إلى مسؤولية «الحزب». فهو يسيطر على جزء كبير من المرفأ، بما في ذلك المنطقة التي وقع فيها الانفجار، حيث قام «الحزب» بتخزين قذائفه مؤقتاً منذ عام 2008 تقريباً.
ولم يتغير الكثير خلال العقود الأربعة الماضية. فوفقاً لـ تقرير “وكالة الاستخبارات المركزية” الأمريكية من عام 1987 عن الموانئ اللبنانية، فإن “معظم العمليات في مرافئ لبنان غير قانونية وخارجة عن سيطرة الحكومة”. وعلى الرغم من تركيز التقرير على الفصائل الفلسطينية خلال الحرب الأهلية اللبنانية ودور النظام السوري، إلا أن ديناميكيات السيطرة أفادت «حزب الله»، حيث يبدو أنه ورث سيطرة النظام السوري والفصائل الفلسطينية على مرافئ لبنان.
وليس سراً أن «حزب الله» يتمتع بالنفاذ إلى جميع مداخل لبنان والسيطرة عليها: الحدود السورية-اللبنانية والمطار والمرفأ. كما ليس سراً أن «الحزب» كان يهرّب أسلحة عبر المرفأ لتخزينها في لبنان ونقلها إلى سوريا.
كما لا يخفى على أحد أن «حزب الله» وحلفاءه وضعوا أتباعهم في العديد من المواقع الحساسة في المرفأ. وبالفعل، في تموز/يوليو 2019، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في «الحزب» وفيق صفا لعمله بالنيابة عن «الحزب». وذكرت الوزارة أن صفا، بصفته رئيس الجهاز الأمني لـ «حزب الله»، قد “استغل مرافئ لبنان والمعابر الحدودية لتهريب بضائع محظورة وتسهيل السفر” نيابة عن «الحزب». ووفقاً للتقرير، فإن «حزب الله» “استغل صفا لتسهيل مرور المواد، بما فيها المخدرات والأسلحة غير المشروعة، إلى مرفأ بيروت في لبنان” و”قام على وجه التحديد بتغيير مسار بعض الشحنات لكي تمرّ عبر صفا لتجنب التدقيق”.
وهناك العديد من الأسئلة التي يمكن أن يجيب عليها تحقيق محايد: لماذا تمّ إبعاد فرق الإنقاذ الهولندية والفرنسية عن المرفأ لساعات في اليوم الثاني بعد الانفجار؟ لماذا تم تخزين نترات الأمونيوم في المرفأ؟ مَن تركها هناك لمدة ست سنوات رغم التحذيرات من المخاطر؟ ما سبب الانفجار على وجه التحديد؟ لن تتمكن السلطات اللبنانية من الإجابة عن هذه الأسئلة بنفسها.
في عام 2005، سارع العديد من أحزاب المعارضة اللبنانية إلى اتهام النظام السوري برئاسة بشار الأسد و«حزب الله» باغتيال الحريري. وفي ذلك الحين، اتهم الأمين العام لـ «حزب الله»، حسن نصر الله، إسرائيل [بالقيام بعملية القتل] ولم يتردد في تقديم الشكر للنظام السوري بعد انسحاب قواته من لبنان، في بادرة اعتُبرت تحدياً للمجتمع الدولي والمعارضة المحلية.
وبعد مرور خمسة عشر عاماً، أصبحت “المحكمة الخاصة بلبنان” مستعدة لإعلان حكمها في 18 آب/أغسطس ضد أربعة من عناصر «حزب الله». ومن شبه المؤكد أن تتم إدانة القتلى المتهمين باغتيال الحريري في غضون أيام قليلة، وأمكن تحقيق ذلك فقط لأن المجتمع الدولي ضغط من أجل إجراء تحقيق دولي وساعد في إنشاء “المحكمة الخاصة بلبنان”. ومع تطور الأحداث في بيروت، تظهر فرصة مماثلة اليوم.
ومن الواضح أن «حزب الله» قلق. فقد اتهم مؤسسات الدولة والموظفين الحكوميين وليس إسرائيل هذه المرة. وبناءً على ذلك، يبدو أن «الحزب» والحكومة اللبنانية التي تدور في فلكه قد قررا أنه من أجل تخطي هذا المأزق، يجب التضحية ببعض الموظفين، بمن فيهم مدير عام الجمارك، بدري ضاهر، الذي عيّنه جبران باسيل، الحليف الرئيسي لـ «حزب الله» في البرلمان.
يتعين على إدارة ترامب الاستفادة من هذا الوضع. فقد كانت واشنطن تركز مؤخراً على ممارسة أقصى قدر من الضغط على إيران. لذلك، سيكون من المنطقي أن تدرك أن فظاعة التفجير في بيروت ومأساته يمثلان فرصة لقص أجنحة وكيل إيران الأكثر فعالية في المنطقة، أي «حزب الله».
وهناك العديد من من الأسباب القوية التي تدفع واشنطن إلى الانخراط بشكل أعمق في لبنان في الوقت الحالي، وهي: صقل مؤهلاتها القيادية الإقليمية، واستباق الصين وروسيا إلى المنطقة، وضمان خطوط الإمدادات إلى سوريا. ولكن استغلال هذه اللحظة لمنح اللبنانيين فرصة لإنشاء نظام سياسي جديد يتمّ فيه الحد من نفوذ «حزب الله» هو بالتأكيد في أعلى قائمة الأولويات.
وفي هذا السياق، هناك العديد من الأمور التي يمكن للحكومة الأمريكية القيام بها لتحقيق هذا الهدف.
أولاً، يجب أن تدرك أن هذه لحظة أشبه بتلك التي أسفرت عنها أحداث 2005. كما أن “تحالف 14 آذار” السابق المناهض لـ «حزب الله» ليس بديلاً لأن الفساد مستشر في صفوف التحالفيْن ولأن مطالب المحتجين اللبنانيين – بشعارهم الرئيسي «كِلْكُن يعني كِلْكُن» – تستهدف كل سياسي طائفي وفاسد بغض النظر عن موقفه السياسي من «حزب الله».
ويطالب الشعب اللبناني باستبدال تام وشامل للنظام – نوع جديد من “اتفاق الطائف” – ذلك الاتفاق الذي تمّ التفاوض بشأنه في السعودية في أيلول/سبتمبر 1989 لتوفير “الأساس لإنهاء الحرب الأهلية والعودة إلى الحياة السياسية الطبيعية في لبنان”. واليوم، تتطلب المأساة في لبنان اتفاقاً جديداً من شأنه أن يؤدي إلى تغيير فعلي ويضع حداً للنظام الطائفي.
ثانياً، يجب أن تتأكد واشنطن من عدم مرور المساعدات الإنسانية عبر أي من مؤسسات الدولة، بما في ذلك “الجيش اللبناني”. صحيح أن الولايات المتحدة كانت تساعد “القوات المسلحة اللبنانية” منذ عام 2006 لتحقيق أهداف أمنية واضحة، إلا أن “الجيش اللبناني” بدوره استخدم القوة الوحشية ضد المحتجين خلال المظاهرات الأخيرة. ويمكن أن تستمر المساعدة الأمنية طالما لا يستخدمها “الجيش اللبناني” لقمع المحتجين، ولكن المساعدة الإنسانية يجب أن تمر عبر المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية التي تقوم بعمل أفضل بكثير في جهود الإغاثة.
ثالثاً، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الضغط من أجل إجراء تحقيق مستقل وشفاف للتفجير الذي هزّ مرفأ بيروت. وإذا كان الهدف من السياسة الأمريكية هو احتواء إيران وحلفائها، فهذه فرصة ذهبية لفعل ذلك. فتحميل «حزب الله» مسؤولية قتل ربما مئات اللبنانيين وجرح الآلاف قد يدفع الشعب اللبناني – والرأي العام الغربي بشكل عام – إلى رفض قبضة «حزب الله» على البلاد.
رابعاً، يجب إجراء تحقيق في استخدام “الجيش اللبناني” للعنف ضدّ المحتجين. فـ “ثورة الأرز” انطلقت عام 2005 لأن قيادة الجيش اتخذت قراراً بحماية المحتجين الذين كانوا سلميين. واليوم، يبدو أن الجيش قرر حماية السلطات ومعاقبة الضحايا. يتعين على الإدارة الأمريكية أن تبعث برسالة واضحة إلى “الجيش اللبناني” مفادها أنه إذا لم يبادر إلى حماية المحتجين كما فعل في عام 2005، فسوف تتوقف المساعدات الممنوحة له.
أخيراً، على الحكومة الأمريكية أن تأخذ زمام المبادرة في الضغط من أجل تغيير فعلي بدلاً من اتباع قيادة ماكرون. فقد يكون الرئيس الفرنسي راضياً عن حكومة وحدة وطنية، إلّا أن هذه الفكرة تعيد إلى أذهان الشعب اللبناني حكومة الوحدة الوطنية الأولى التي فُرضت على اللبنانيين بعد أحداث أيار/مايو 2008.
في ذلك الوقت، سيطر «الحزب» على بيروت وجبل الدروز واستخدم أسلحته ضد الشعب اللبناني ودفع بـ “تحالف 14 آذار” إلى التخلي فعلياً عن السلطة لصالحه من خلال حكومة الوحدة الوطنية – مما أطلق عملية سمحت للحزب بالاستيلاء على معظم المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية. ومن شأن حكومة وحدة وطنية أخرى اليوم أن تحافظ على سلطة «حزب الله» على مؤسسات الدولة.
وبدلاً من ذلك، فإن ما يحتاجه لبنان هو بداية جديدة – عقد سياسي واجتماعي جديد يقضي على الطائفية ويؤسس للمساءلة من خلال الإصلاحات القضائية. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال قانون انتخابي جديد يسفر عن تمثيل مناسب ويضع حداً للنظام الطائفي، وكذلك من خلال إجراء انتخابات مبكرة يتمخض عنها برلمان جديد وحكومة جديدة ورئيس جديد.
كما يحتاج لبنان إلى معرفة الحقيقة – والمحاسبة التي تليها – للتغلب على هذه المأساة.
حنين غدار هي زميلة زائرة في زمالة “فريدمان” في “برنامج غيدولد للسياسة العربية” في معهد واشنطن.
المصدر: فورين بوليسي/ معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى