لكي يقلب الطاولة ويمنح لنفسه السلطات الكاملة، تحجج قيس سعيّد بوجود “خطر داهم” يهدد الدولة. إذا كان من الممكن تصور هذا الخطر في ضوء الوضع في البلاد، فإن الاختيار الذي تبناه رئيس الجمهورية يبقى في الوقت الحالي غامضا جدا وخاصة محفوفا بالمخاطر.
هل هو “انقلاب”؟ أم “انقلاب شعبي”؟ أم “انقلاب دستوري”؟ أم هو تطبيق مبرر للدستور؟ يحتدم الجدل منذ 25 يوليو/تموز 2021. بعد يوم من الاحتجاجات ضد الحكومة شهد مشاركة واسعة في جميع أنحاء البلاد، والتي غالبًا ما كانت موجهة ضد حزب النهضة الإسلامي المحافظ، أطلق قيس سعيّد “الصاروخ” الذي كان يهدد به الطبقة السياسية منذ عدة أشهر. إذ قام بتفعيل المادة 80 من الدستور التي تسمح باتخاذ كافة “التدابير” لمواجهة “خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد”. وبالتالي، تولى على الفور وبشكل انفرادي قيادة السلطة التنفيذية بعد أن أقال رئيس الحكومة، وأعلن أنه سيختار رئيس الحكومة القادم بنفسه، كما جمد نشاط البرلمان لمدة 30 يومًا ورفع الحصانة عن النواب. باختصار، جمع قيس سعيد كل السلطات بين يديه.
بالنسبة لحركة النهضة، فإن الأمر واضح: إنه “انقلاب غير قانوني وغير دستوري” وقد “عمل قيس سعيد مع قوى غير ديمقراطية للإطاحة بالحقوق الدستورية للمنتخبين واستبدالهم بأعضاء من عصبته”. غير أن الرئيس يحظى بتأييد شعبي، إذ تظهر استطلاعات الرأي بأن 87٪ من التونسيين يؤيدون انقلابه ويرون فيه الرجل المنقذ للبلاد. يصعب بين هذين الموقفين، عرض تعقيدات الوضع، ولكن لنحاول.
مسألة سياسية أكثر منها قانونية
يرى خبراء القانون -ولا تنقصهم الحجة- بأن قيس سعيد تجاوز الصلاحيات التي يمنحها إياه الدستور في نقطتين على الأقل. أولاً، كان من غير الممكن مشاورة المحكمة الدستورية مسبقا لأنها لم تتشكل بعد. حتى وإن كان هذا الإلزام شكليا، فهو يعد ثغرة تجعل الإجراء المنصوص عليه في المادة 80 غير قابل للتطبيق. ثانيا، يتعارض تجميد مجلس النواب مع مادة لا لبس فيها تنص على أنه يبقى في حالة انعقاد دائم خلال هذه الفترة.
من جهة أخرى، فإن الضمان الذي تمنحه الإمكانية لرئيس مجلس الشعب أو ثلثي النواب باللجوء إلى المحكمة الدستورية بعد انقضاء أجل الثلاثين يوما قصد التحقق من “استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه” مستحيلا في غياب وجود هذه الهيئة. لذا يبقى قيس سعيّد الوحيد الذي يقرر بشأن الوضع الذي يسمح بالعودة إلى القانون العادي. فقد تجاوز رئيس الدولة الذي يولي تقديرا كبيرا لخبرته في القانون الدستوري، حواجز الأمان الدستورية بوضوح.
إن الجدل حول “الانقلاب” من عدمه هو من النوع الذي لا يُفصل فيه أبدا. فحتى الأنظمة الليبرالية التي يحل فيها القانون محل القوة تدرج في ترتيباتها الدستورية ذلك الجانب الصغير من الغموض الذي يستطيع بفضله الحاكم التحرر من كل القيود، عندما يتعرض النظام السياسي للتهديد. هي ترتيبات مؤطرة طبعا، ولكن حسب تعبير الفيلسوف المثير للجدل كارل شميت، منظر حالة الاستثناء، “ليس للضرورة قانونا”. بعبارة أخرى، تزول التقييمات القانونية أمام ضرورات بقاء الدولة. قد يتيح هذا الجدل بلا شك فرصة لمساهمات أكاديمية مثمرة لخبراء القانون. غير أن السؤال الحقيقي سياسي، ويُطرح على مرحلتين: أولا، ما هو الخطر الداهم الذي يستدعي اللجوء إلى حالة الاستثناء وإلى أي مدى يمكن أن يُقدم هذا اللجوء حلا لذلك؟ ثم في أي اتجاه ستتطور ممارسة السلطة؟
إجماع تبادلي
تراكم عشية 25 يوليو/تموز في تونس كم كبير من المخاطر إلى درجة أن احتمال تحولها إلى دولة فاشلة صار يلوح في الأفق. يقال الكثير عن دور قيس سعيّد في انسداد العمل الحكومي خلال الأشهر الأخيرة ورفضه التعامل مع الأغلبية البرلمانية والتصديق على التغيير الوزاري الذي قام به رئيس الحكومة هشام مشيشي الذي عينه هو نفسه في يناير/كانون الثاني 2021. غير أن للأزمة السياسية جذورا أقدم. ويعود ذلك إلى الطابع “التبادلي” للمرحلة الانتقالية التي هي بالتحديد، وفقا للرئيس سعيّد، أحد أسباب المشكلة.
لتفادي العودة إلى دكتاتورية أوتوقراطية أو برلمانية، قسّم الدستور السلطات وأضفى نوعا ما طابعا دستوريا على إلزامية الإجماع. ولكن منذ ذلك الحين، عِوضَ إجماع يتجاوز المصالح الذاتية، سادت نسخة “تجارية” للإجماع حيث سعى كل واحد إلى الحصول على أكبر قدر من الأرباح. وكان ذلك بمثابة أخذ وعطاء بين النهضة التواقة إلى الإدماج والأمن والنخب القديمة، التي مثلها لوقت ما حزب “نداء تونس” والرئيس الباجي قايد السبسي، الباحثة عن “رسكلة” سياسية وحماية. لم يكن هذا “الإجماع” في أي وقت في خدمة مشروع تحويل النموذج الاقتصادي. والسبب واضح، إذ ليس لأي قوة سياسية مشروع من هذا النوع. ولم يسمح هذا الإجماع حتى بتنفيذ “توصيات” المانحين الذين بدأ صبرهم ينفد أكثر فأكثر.
كانت النتيجة أن تغير كل شيء حتى لا يتغير شيء. لقد تدعمت أسس اقتصاد الريع الذي يحتكر الأعمال التجارية المربحة والقروض والتراخيص لبعض العائلات. فمن نظام يخدم السلطة السياسية الذي كان عليه قبل 2011، تحول إلى سيد هذه السلطة. في غياب القدرة على تحسين أوضاع غالبية التونسيين، اكتفت الحكومات المتعاقبة بشراء السلم الاجتماعي وابتلعت التمويلات الدولية التي كان من المفترض أن توجه لدعم الإصلاحات، بينما كانت الإدارة عاجزة عن تنفيذ مشاريع الاستثمار إلى درجة أن مليارات الدولارات من التمويل لم يتم صرفها أبدا.
يعتبر تدهور الوضع المالي الذي يظهر من خلال انهيار التصنيف السيادي لتونس ـوهي على عتبة الخطر النهائي المتمثل في التخلف عن تسديد الديونـ نتيجة لهذه العشرية من الجمود. أصبح المانحون يشكون جديا في قدرة الحكومات على اقتراح وتنفيذ خطة الإصلاح الذي يشترطها الصندوق الدولي لتقديم مساعدته. ويعد ذلك شرطا لكي تتمكن الدولة من الاستمرار في الاستدانة لدى دول وأسواق أجنبية لتمويل تسييرها. جاءت الكارثة الصحية لتجسد بشكل مأساوي في حياة التونسيين نتيجة هذا الفشل الجماعي المتمثل في تدهور الخدمات العمومية وغياب التنبؤ واللامبالاة، إن لم نقل عدم كفاءة الحكام، والطابع العقيم للمناوشات بين الأحزاب السياسية التي تعطي الحياة البرلمانية مشهدا مثيرا للازدراء عنها. وقد عجلت هكذا بالتعبير عن غضب تراكم طويلا وكان وقودا للمظاهرات، مقدمة انقلاب قيس سعيّد السياسي. فالخطر الداهم كان ها هنا، في الانهيار الأخلاقي والاجتماعي والمالي والمؤسساتي للبلاد.
شكلت وضعية “الأزمة العضوية” هذه “لحظة قيصرية” بامتياز، مواتية للجوء إلى قائد يكلف بمهمة إعادة بناء نظام سياسي متهالك. كان قيس سعيّد مرشحا معينا لوظيفة القيصر. فعلى الرغم من نقاط ضعفه، تجاوز الخط باتخاذ قرار حاسم فتح مسلكا فيما كان يعتبر قبل 25 يوليو/تموز طريقا مسدودا.
دعم شعبي لا جدال فيه
عاش العديد من التونسيين هذا المرور إلى الفعل على أنه خلاص. لقد تجاوزت البهجة الشعبية التي أيدت إعلان قيس سعيد الانتماءات الاجتماعية والحساسيات الأيديولوجية، وهو أمر لا يمكن الاستهانة به من وجهة نظر ديمقراطية. كما كان الحال بعد الساعات والأيام التي تلت انتخاب قيس سعيّد بنسبة 73% من الأصوات، هناك تعبير عن شعور بالارتياح والأمل في التجدد الجماعي. فبغض النظر عما يمكن أن يقترحه بصفة ملموسة، فتح قيس سعيّد الباب لحالة من التجنيد واليقظة والاقتراح، وهي نقيض الخمول الذي قد ترسخ من جديد قبل 25 يوليو/تموز. نجد مثالا عن هذا التحول الذاتي في وجهة نظر رئيس جمعية الدفاع عن المستهلك: “تونس قبل هذا التاريخ ليست تونس ما بعده، كل الذين كانوا يصطدمون بالجدران عندما يريدون تغيير الأمور سيكونون قادرين على المضي قدما، أما الذين كانوا يعانون صعوبة في النوم سينامون بشكل أفضل. سيتمكن الجميع من العودة إلى العمل”.
بالمقابل تعد المحاولات المتسرعة لرؤساء البلديات ومسؤولي الإدارات لإتلاف ملفات مُدينة ابتداء من الاثنين 26 يوليو/تموز مؤشرا قويا عن الخطر الذي يمثله هذا التغيير السياسي على الفساد المستشري. في تصريح يطالب بضمانات ديمقراطية من قيس سعيّد وخاصة باستقلالية القضاء، ذكرت جمعية القضاة التونسيين بأن “عملية الانتقال الديمقراطي والحكومات المتعاقبة منذ الثورة” فشلت في “تلبية التطلعات الأصيلة للشعب” في جعل النظام القضائي يطابق الدستور، وتكريس استقلالية القضاء. كما أنها “مست بالمبادئ الدستورية المتعلقة بالشفافية والمساءلة في مجال مكافحة الفساد”.
في هذه الظروف، ترن بمرارة المطالب بـ“العودة السريعة إلى العمل الطبيعي للمؤسسات الديمقراطية” المتكررة في تصريحات الحكومات الغربية في آذان غالبية التونسيين الذين يرون بأنها سبب فقدان أملهم. فهذه النظرة القانونية الضيقة تهمل ما هو أساسي: العودة إلى الوضع القائم سابقا تعني العودة إلى أسباب الأزمة.
والآن، ما العمل؟
هل لقيس سعيّد حلولا يقدمها؟ لا يزال الوقت مبكرا لمعرفة ذلك. من بين دخلاته الأولى في المجال الاقتصادي، ناشد رئيس الجمهورية الواجب الأخلاقي للتجار والصيادلة في تخفيض الأسعار قصد تخفيف العبء على التونسيين. ولكنه لم يجند الأدوات التقنية للسياسات العمومية التي تسمح بتحقيق ذلك. بصفة عامة، بمن سيحيط قيس سعيّد نفسه لتنفيذ مشروع اقتصادي ووفق أية رؤية؟ كيف ينوي استرجاع ثقة المانحين؟ هل بالتفاوض مع المؤسسات المالية الدولية؟ هل بالتصدي لهروب رؤوس الأموال الذي بدأ بالفعل؟ كيف ينوي إصلاح دولة غارقة بأثقالها البيروقراطية؟
أشار سعيد في خطابه مساء الأحد إلى مشروعه المتمثل في “قلب هرم السلطة”. من الصعب تصور أن الأحزاب السياسية في البرلمان ـالتي يتجاهلها الرئيس تماما منذ تفعيل المادة 80ـ ستقبل بتقويض نفسها بالتصويت لهذا المشروع. هل ينوي قيس سعيد المصادقة عليه عن طريق الاستفتاء، متحررا هكذا بشكل معلن هذه المرة من الإجراءات المنصوص عليها في الدستور باسم الشرعية الثورية؟ كم من الوقت يحتاجه لاستكمال هذه الأعمال الجبارة؟ دون شك أكثر من 30 يوما.
الخطر السلطوي
بمهاجمته مصالح اقتصادية وسياسية قائمة، سيواجه الرئيس حتما مقاومة وضربات ملتوية. كيف سيتعامل معها؟ وعندما تأتي لحظة “ما بعد السُّكر” وخيبة الأمل، كيف يمكنه توجيه الغضب؟
هنا يكمن البعد الثاني من الجواب. فعلى الرغم من الدعم الشعبي الأكيد الذي يحظى به، ماذا سيكون أثر الوقت والديناميكيات السياسية على هذه السلطة الشخصية؟ مثل ما هو الحال بالنسبة للحروب، الدخول في حالة الاستثناء أسهل من الخروج منها. فبعد تذوق سهولة ممارسة السلطة بدون حدود، سيكون من الصعب التخلي عنها عندما تبدأ الصعوبات الحقيقية. يعد تصحيح مسار ديمقراطي من قبل رجل واحد بدعم من الجيش تناقضا ظاهريا. صحيح أن قيس سعيّد ليس الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي هو نتاج خالص لجيش يمتلك كل المصالح الاقتصادية والمستعد لإعدام ألف متظاهر. غير أن دعم الانقلاب من قبل دول عربية مثل مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة لا يُعد أمرا عرضيا. بدخوله في هذه المغامرة والحال أن البلاد على وشك التخلف عن تسديد الديون، وضع رئيس الدولة نفسه في ميدان صراعات جيوسياسية هي في أوج إعادة التشكيل. هل تسمح الجزائر للنفوذ المصري أن يعمل داخل المنطقة المغاربية؟ هل ستشترط الولايات المتحدة تجديد مساعدتها باستمرار العملية الديمقراطية؟ هل ستسمح للرياض بدعم نهج تسلطي محتمل في الدولة الوحيدة التي قُدمت على أنها مثال للديمقراطية في العالم العربي؟
إحدى مفارقات قيس سعيّد التي أشار إليها مايكل عياري في تقرير لمجموعة الأزمات الدولية في مارس/آذار 2020، هو أن خطابه يمس طيفا واسعا جدا من الرأي العام. ففي طرف أقصى، له صدى عند مكون شعبي من المجتمع، مهمش في نفس الوقت بسبب النموذج الاقتصادي والديمقراطية التمثيلية. وفي الطرف الأقصى الآخر، فهو يستجيب لطلبات استرجاع الدولة التي أفرغت بسبب الاختراقات الحزبية، والتي يحملها ذوو الحنين من دستوريي النظام السابق.
وقد أكدت عبير موسي، زعيمة حزب الدستور الحر، الذي ينتسب إلى زين العابدين بن علي، بأن ما قام به قيس سعيّد يتطابق مع ما تقترحه. يلتقي هذان الطرفان في جعل حركة النهضة كبش فداء الأزمة، إذ يتهمها البعض بأنها “سرقت” الثورة، في حين يتهمها الآخرون بأنها “سرقت” الدولة“. وقد أصبح التعبير يتم بدون لف، من طرف مدعمي قيس سعيّد، عن مواقف عنيفة مناهضة للنهضة تذكر بأسوأ ساعات السياسة الاستئصالية لبن علي قبل 2011. فالرئيس يتمتع إذا في نفس الوقت بجزء من” الشرعية الثورية“وبجزء من الشرعية”المضادة للثورة”.
إلى أي حد سيؤثر هذا الجانب الأخير المضاد للثورة على تطوره المستقبلي؟ هل سيستمر هذا التقارب أم على العكس سيتمزق؟ وفي هذه الحالة ماذا ستكون كلفته السياسية وكيف سيتعامل معه؟ ولتوسيع الإشارة إلى مفهوم القيصرية، كان أنطونيو غرامشي يميز بين شكلين منها: “أحدهما تقدمي والآخر رجعي. في الحالة الأولى، يختل التوازن لصالح القوى التي تدفع التركيبة الاجتماعية نحو درجة أعلى من الحضارة، وفي الحالة الثانية تكون استعادة ماضوية سيدة الموقف”. من السابق لأوانه في الوقت الحالي الفصل بخصوص هذا التضارب.
هل يمتلك قيس سعيد الوسائل لكي يكون المنقذ؟ هل سيتمكن من تجنب التحول إلى طاغية؟ تونس 2021 ليست تلك التي كانت سنة 1987، عندما خلف بن علي الحبيب بورقيبة على رأس نظام تسلطي قائم. اليوم، حتى وإن كانت الديمقراطية التونسية الشابة تعاني من اختلال وظيفي، فهي قد غيرت الممارسات والتطلعات، وسمحت بنمو مجتمع مدني منظم ومؤثر، وعودت جزءا كبيرا من المواطنين على رفض حرمانهم من حقوقهم أو كرامتهم. في المقابل، سيكون لخيبة أخرى للأمل الذي أطلقه قيس سعيّد تكلفة سياسية رهيبة.
تيري بريزيون صحفي مراسل في تونس
المصدر: موقع أوريان21