عن مغزى زيارة رئيس أرض الصومال الدوحة

الشافعي أبتدون

مثّلت زيارة رئيس أرض الصومال، عبد الرحمن محمّد عبد الله عرو، الدوحة منعطفاً دبلوماسياً وسياسياً جديداً في علاقات هرجيسا بجوارها الخليجي، إذ هي أول زيارة لمسؤول في أرض الصومال يجري فيها لقاءات مع مسؤولين قطريين في الدوحة، في مقدمتهم رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ما يفتح آفاقاً جديدة لحكومة عرو، التي تواجه تحدّيات اقتصادية واستراتيجية منذ انتخابه رئيساً لأرض الصومال أواخر عام 2024، وسبقت ذلك مشاركته في منتدى الحكومات في الإمارات. ولعلّ الجانب التنموي وتطوير البنى التحتية ودعم هرجيسا كانت الشواغل التي حضرت في مباحثات الرئيس عرو مع المسؤولين القطريين، وهو ما يمكن تفسيره بأن إدارة أرض الصومال تبذل مساعي حثيثة لتكثيف نشاطها الدبلوماسي لأغراض سياسية وإنمائية.

يمكّن عمق قطر الاستراتيجي من تنويع تحالفاتها الإقليمية والانفتاح على جوارها الأفريقي، وتجاوز رواسب الماضي من دون الوقوف على أطلالها كثيراً، فموقع الصومال، ومن ضمنها إقليم أرض الصومال، استراتيجي وحيوي للدوحة، ولهذا فإن موقف هرجيسا إبّان أزمة الخليج، واصطفافها مع دول الحصار عام 2018، لا يمكن أن يعكّر طريق الدوحة واستراتيجيتها في التوسّع نحو دول المنطقة، وليست قطر وحدها التي تولي اهتماماً كبيراً بالمنطقة، فشبكة التحالفات الإقليمية والخليجية مع دول القرن الأفريقي تتوسّع وتتعمّق، كلما ازدادت الاضطرابات في الشرق الأوسط، فزيارة عرو الدوحة عكست بعداً جديداً في علاقاته الدبلوماسية، وأثبتت أن هرجيسا ليست مجرّد قطعة نرد في قبضة النفوذ الإماراتي وحده، بل سعي إلى استكشاف بدائل أخرى قد تفتح لإقليم أرض الصومال آفاقاً دبلوماسية وشراكات جديدة.

لافت أن ترتيبات زيارة عرو الدوحة لم تمرّ عبر القنوات الدبلوماسية الرسمية، إن لم يكن هذا ممكناً ومتوقّعاً أصلاً من الحكومة الصومالية، التي تعتقد إيماناً جازماً بمنطق وحدة “الوحدة” جنوباً وشمالاً، بل جرت من خلال شبكة تحالفات أخرى وضمن بروتوكول خاص لاستقبال وفد رئيس حكومة أرض الصومال، لكن الدوحة تتمسّك بوحدة الصومال واحترام سيادته كتلةً موحّدة، وذلك ما أكّده بيان الخارجية القطرية عقب اللقاءات، الذي أشار إلى أن “الصومال شريك مهم بالنسبة إلى قطر”، وعلاقات البلدين “مبنية على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة”، ويعدّ احترام الدوحة مبدأ وحدة الصومال وسيادته توجهاً خارجياً لدول الخليج التي تعترف بالصومال دولةً موحدةً ومستقلةً، ما يدحض شائعاتٍ تسبق دوماً أي زيارة خارجية يجريها مسؤول في أرض الصومال ولها صلة بقضية الاعتراف بحكومة هرجيسا.

يمكن أن تحقّق دبلوماسية قطر دوراً في حلحلة معضلة إقليم أرض الصومال مع الصومال

في السنوات الماضية، حرصت إدارة هرجيسا على إنفاق أموال طائلة لتعزيز مبدأ انفصالها عن الجنوب، أو ما بات يعرف محلياً بـ”استعادة الاستقلال” (1991)، والحصول على اعتراف دولي. تضمّنت تلك الجهود إقامة حفلات وتنشيط مناسبات في الداخل والخارج، لترويج الاعتراف شرطاً أساساً لنهضتها، لكنّ حجر الزاوية الغائب في العقل الجمعي والإدراكي للنخبة السياسية الحاكمة في إقليم أرض الصومال يكمن في تسخير تلك الجهود والأموال التي تنفق بذخاً وإسرافاً لتحسين حياة كثيرين من سكان الإقليم (ستة ملايين نسمة)، ودعم القطاعات التنموية الأساسية، ومكافحة الفساد، يحصل ذلك أيضاً في الصومال، التي لا تتوقّف المناسبات الحكومية أسبوعياً، وتستنزف خزينتها وتهدر في سبيلها أموال من المؤسّسات الأممية أو الغربية، في ظلّ فقر مدقع وانتشار الفوضى والفساد كالنار في الهشيم في مؤسّساتها ودوائرها الحكومية. كما أن الجهود المبذولة لتنمية علاقات هرجيسا خارجياً كان من المفروض تحويلها (ولو كان نزرا يسيرا منها) لإصلاح الداخل عبر تقوية (وبناء) شراكات جديدة مع القبائل، خاصّة تلك التي ثارت ضدّ نظام هرجيسا (طولبهنتي)، سيّما في إقليم سول الذي شهد عام 2023 معارك طاحنة أدت إلى إعلان انفصال هذا الإقليم من الانفصاليين أنفسهم في إقليم أرض الصومال، وتبنّي خطاب الوحدة والرقص على أنغام إيقاعات (ووتر) مقولة “الصومال الكبير” مع الجنوبيين، ومواجهة خصوم الداخل بالإقناع والحوار، لا الإقصاء والتهميش مساراً آخر لإثارة فوضى أخرى في الإقليم، لأن اللجوء إلى القوة لقمع المعارضين أو القبائل بات جرس إنذار يهدّد مستقبل تماسك القبائل، ما لم تكن آلية فضّ النزاع بالتفاهمات للحفاظ على المكوّنات، التي شكّلت إدارة “أرض الصومال” عام 1991.

تتصارع في هرجيسا نبرة خطابات الاعتراف بإقليم أرض الصومال مع اختناق أصوات الداخل المطالبة بتحقيق إصلاحات جذرية

تتجلّى اهتمامات الدوحة تجاه القرن الأفريقي في تعزيز نفوذها من خلال بناء شبكة تحالفات استراتيجية، ليست عابرةً ولا قصيرةَ الأمد، بل تتطلّع إلى شراكة حقيقية مع دول المنطقة بعيدة المدى، من خلال التنسيق مع الحكومات المعترف بها دولياً، والحكومة الصومالية واحدة من تلك الدول التي تحتفظ بعلاقات جيّدة ومتينة مع الدوحة، وتُعدّ في محور اهتمامها، ولا يمكن التغافل عن دورها في التوجّه القطري خارجياً في الوقوف إلى جانبها إبان الأزمة الخليجية، وبما أن الوساطة القطرية حقّقت اختراقاً لحلّ صراعات إقليمية وعالمية، منها أزمات أفريقية، وآخرها الوساطة بين رواندا والكونغو (2025)، وبين حركة طالبان والولايات المتحدة (2021)، وجهودها المكثّفة لوقف العدوان الإسرائيلي على غزّة منذ عام 2023، والوساطة بين الصومال وكينيا (2021)، وقبلها كثير من الوساطات الدبلوماسية الناجحة، ويمكن أيضاً أن تحقّق دبلوماسية قطر دوراً في حلحلة معضلة إقليم أرض الصومال مع الصومال، من خلال العودة إلى المفاوضات، ودفع تلك الجهود نحو الأمام، لكن الحيرة تبقى عالقةً في عدم وجود مبادرات قطرية لوقف الصراع في الصومال، أم أن الأزمة الصومالية بدت حالةً مستعصيةً بمنزلة قلعة حصينة الجدران يصعب اختراقها؟ وهل شروط الوساطة لم تتوفّر فيها بعد، والأجواء لم تتهيأ كي تنضج مبادرات قطرية للمّ شمل الصوماليين جنوباً وشمالاً ؟… ليس من المبالغ فيه القول إن رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الذي تُوّج مطلع يوليو/ تموز الجاري، بجائزة “تيبيراري الدولية للسلام”، في مقاطعة تيبيراري الأيرلندية، تقديراً لدور بلاده البارز في دعم جهود السلام إقليمياً ودولياً، يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في حلحلة أزمات الصومال المركّبة والمعقدة منذ عام 1991.

في النهاية، تتصارع في هرجيسا نبرة خطابات الاعتراف بإقليم أرض الصومال مع اختناق أصوات الداخل المطالبة بتحقيق إصلاحات جذرية لمكافحة غول الفساد، وتفشّي عدوى اللامبالاة في تغيير أنماط حياة كثيرين، أي بمعنى آخر، وضع الاعتبارات والأجندات الداخلية في صلب اهتمامات الإدارة المحلّية على غرار ما تبذله من جهود وأموال لتسويق نفوذها الخارجي والصراع مع مقديشو في المحافل الإقليمية، والانشغال بتدشين مكاتب تمثيلية هنا وهناك، من دون أن يغيّر ذلك أو يعدّل نظرة الدول تجاهها، دولةً مستقلّةً أو غير مرتبطة بالجنوب الصومالي، كما أن الأضواء الإعلامية التي تناولت قضيتها مع تصاعد أزمة البحر الأحمر، دفعت إدارة هرجيسا لترويج مشروعها الانفصالي، باعتبارها موقعاً مثالياً لإقامة قواعد عسكرية أجنبية في المنطقة، ذلك سرّ تهافت بعض الدول نحوها راهناً. ولهذا تنبغي الاستفادة من هذا الاهتمام في أبعاد إنسانية وتنموية، أمّا سياسياً ودبلوماسياً فذلك مرتبط بتوافق داخلي بين الأطراف الصومالية، والتفاوض في التوصّل إلى صيغة لفكّ الارتباط نهائياً أو العودة إلى حلول وسط أو ميثاق عقد اجتماعي يضع حدّاً لإهدار الجهود والموارد أكثر من ثلاثة عقود.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى