المشرق العربي والأوراق المسمومة

صقر ابو فخر

هي ذي إسرائيل تشقّ الآن المشرق العربي كلّه بمحاريثها التدميرية الجبارة، وتستبيح، بمشاركة الولايات المتحدة، كل بقعة فيه: البلاد والعباد والأرض والسماء وتجاويف الجبال وحتى أسرّة الأزواج. وها هي تفتق بلادنا وترتق أمصارنا وأقطارنا كيفما شاءت، وليس لنا حتى حقّ التململ. لقد تطايرت هباءً أحلامنا بالدولة الحامية والراعية، وتناثرت تطلّعاتنا التاريخية إلى العدالة والحرية والديمقراطية والمساواة وتحرير ما أمكن من فلسطين، وانتهت، إلى غير رجعة، فكرة الوحدة القومية. وبلغ الهزال في الأنظمة العربية المهترئة مبلغاً من الهوان والذلّ لم تشهده عصور الاجتياح المغولي وفتوحات جنكيز خان وتيمورلنك، وتسُّيد أبو رغال والعلقمي ونصير الدين الطوسي، حتى بات الأمير منا مثل العُظرُط لا يحلّ ولا يربط. وها نحن اليوم، بحسب ما يلوح لي، نطوي مرحلة هوجاء امتدّت، في شوطها الأخير، نحو ستين سنة. ولا ندري على ماذا ستستقر أحوالنا في المرحلة المقيتة المقبلة.

لقد انتهى عصر الإمبراطورات في القرن العشرين، ودُفنت في شعابه السلطنة العثمانية والإمبراطوريات، النمساوية – المجرية والروسية والجرمانية. وعلى أنقاض ذلك العصر ظهرت الدول القومية الجديدة. وفي نهاية القرن المنصرم تفكّكت الدول متعدّدة الإثنيات والقوميات كالاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا والسودان. لنتذكّر أن الهند انقسمت، بعد استقلالها عن بريطانيا، على أساس طائفي (مسلم/ هندوسي)، ورافق تقسيمها في سنة 1947 الترحيل والمجازر المروّعة. وفي السنة نفسها صدر قرار تقسيم فلسطين، وجرى ترحيل سكانها وإيقاع المجازر بهم. وفي القرن العشرين هذا قُسّمت قبرص والسودان وكوريا وفيتنام والكونغو ويوغوسلافيا، وانقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى جمهوريّتَي التشيك والسلاف. وها هو القرن الحادي والعشرون يقلب المشرق العربي وجواره رأساً على عقب، وما عادت ملامحه هي نفسها التي كان عليها قبل سنتين، أي قبل هجوم 7 أكتوبر (2023). وهذا ما كان من أمر لبنان وسورية وفلسطين بالدرجة الأولى. أما إيران فتدخل في نفق بلا ضوء في نهايته، وعلى الأرجح أن العراق واليمن سيتّجهان إلى غير ما يشتهي الحوثيون والمليشيات الموالية لإيران.

البلدان المتناثرة فوق المدى الجغرافي للمشرق العربي، التي وُعدت بالوحدة والازدهار والتقدم والحرّية، لا تتطور ولا تتغيّر ولا تتبدل

راح المشرق العربي الحديث يتشكل بالتدريج بعد حرب أكتوبر (1973). آنذاك بدأت التيارات القومية العلمانية واليسارية تنحسر رويداً رويداً، وتصعد، بدلاً منها، قوى الإسلام السياسي. وظل هذا المسار جارياً حتّى احتلال الولايات المتحدة العراق في سنة 2003. ومنذ ذلك الحدث الهائل في نتائجه، وقع المشرق العربي بين قوى عاتية لها ثارات عندنا نحن العرب، والمقصود إليه؛ إسرائيل وتركيا وإيران، من دون المساواة بين هذه الدول الثلاث. والمشرق العربي الحديث الذي تشكل قبل خمسين سنة لم تبنِه إسرائيل، بل استفادت منه ومن تفسّخاته وتناقضاته. أما مَن بناه حقّاً، لا سيما بعد الاجتياح السوفياتي لأفغانستان في 1979، وبعد انتصار الخميني على الشاه محمد رضا بهلوي في السنة نفسها، فهم الإسلاميون بالتحديد، أي إيران والجهاديون السلفيون من ماركة طالبان والقاعدة وداعش وكذلك الإخوان المسلمون بصنوفهم المتعددة؛ هؤلاء، مع النظم الحاكمة والفاشلة، كانوا حَمَلة معاول التجريف التي فتكت بالمشرق العربي ودوله وسكانه. أما المشرق العربي الجديد فإن أميركا وإسرائيل وتركيا هي التي ترسمه الآن، ومن المحال اكتشاف ملامحه على وجه اليقين، لكن، من المؤكد أن التحولات الجارية فيه ستلد مشرقاً عربيّاً مجهول الأب ومن غير ميراث تاريخي، لأن مشرقاً عربيّاً من دون سورية متماسكة، ومن دون عراق قوي، سيكون مجرّد مدى جغرافي مفتوح تصطرع فيه وعلى موقعه وموارده، جميع المذاهب والطوائف والإثنيات والعشائر والسلطات الناشئة حديثاً والجماعات المقاتلة التي يجري تجنيدها لخدمة هذا الطرف أو ذاك، علاوة على استخبارات دول الجوار والدول الكبرى (أميركا وبريطانيا بالدرجة الأولى). وهكذا تستولي ديناميات التفكّك على أسس طائفية على مصائر المشرق العربي في طوره الأكثر إيلاماً وتفسّخاً وهلهلةً.

هذه البلدان المتناثرة فوق المدى الجغرافي للمشرق العربي، التي وُعدت بالوحدة والازدهار والتقدم والحرية، لا تتطور ولا تتغيّر ولا تتبدل. وأي تغيير جدّي فيها لم يحصل، ولا يحصل، إلّا بحرب أهلية، أو بحرب خارجية، أو بانقلاب عسكري يختصر شوطاً من الصراعات الداخلية المتفاقمة. ودول المشرق العربي (العراق وسورية والأردن ولبنان، فضلاً عن فلسطين) ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، وهي حرب خارجية لم يكن لسكانها أي شأن أو إرادة سياسية في اندلاعها وفي نتائجها. وإسرائيل نفسها ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، ومثلها باكستان التي ما كان من الممكن أن تنشأ لولا الحرب الأهلية التي استعرت بين الهندوس والمسلمين. كذلك كان للانقلابات العسكرية الشأن المهم في التحولات المفصلية وفي التغيرات الكبرى؛ فقد أُطيحت الملكية في مصر بانقلاب الضباط الأحرار في 23 يوليو/ تموز 1952، وسقط الحكم الملكي في العراق بانقلاب الجيش في 14 يوليو 1958، وسقط الإمام حميد الدين في اليمن بانقلاب عسكري في 1963. وحسم التدخل الخارجي (حلف الناتو) المعركة ضد نظام العقيد معمّر القذافي لا المحتجون الليبيون. وأنهت المبادرة الخارجية السعودية الصراع في اليمن بتسوية تضمّنت إزاحة الرئيس علي عبد الله صالح، ثم انهارت التسوية بانقلاب الحوثيين على علي عبد الله صالح وقتله، فتدخلت السعودية لدعم أنصارها، وإيران لدعم الحوثيين.

بعض الدولة العربية انتقلت علناً، لأول مرة منذ سبعة وسبعين عاماً، من دول معادية لإسرائيل إلى دول صديقة لها

لبنان، على سبيل المثال، تغيّر بعد حرب أهلية طويلة المدى (1975-1990) وبعد تدخل خارجي (سورية في 1976، وإسرائيل في 1982 ثم في 2024). وسورية تغيّرت جذريّاً بعد حرب أهلية مديدة (2011-2024) وبعد تدخل خارجي (تركيا). ولم يتغيّر العراق إلا بعد حرب خارجية مدمّرة أفضت إلى احتلاله (2003). ومن البدهي الإشارة إلى أن الاحتجاجات في لبنان في سنة 2019 لم تتمكن من إحداث أي تغيير ولو كان جزئياً، كما أن نضالات اليسار اللبناني منذ سنة 1965 على الأقل حتى سنة 1975، لم تتمكّن من تحقيق أي تغيير ولا حتى بعض الإصلاحات الجدّية. وقد كان اليسار اللبناني، واليسار السوري والعراقي، غشيماً حين اعتقد أن مجتمعاتنا، على غرار المجتمعات الأوروبية، قابلة للتغيير من خلال النضال الشعبي والبرلماني. فالعناصر التكوينية لهذه المجتمعات كالطوائف والقبائل والإثنيات شديدة الرسوخ، ولا تتحول إلّا ببطء شديد وعلى المدى البعيد. فالطوائف ليست مجموعات إيمانية، بل هي “أشباه أمم” لها هويتها التاريخية وثقافتها وثرواتها ومؤسّساتها ومواقعها في الدولة. وقد عادت الولاءات الطائفية والمذهبية والإثنية بقوة جرّاء الحركات الشعبية التي حرّرت التناقضات الكامنة في المجتمع من قبضة الدول المركزية المتشدّدة، خصوصاً في الأرياف، فما إن لاح للعصبيات المقموعة بعض الانفتاح لدى النظم التسلطية (العراق وسورية) حتى فسّرت ذلك من علامات ضعف العصبية المهيمنة، فبادرت إلى الانفلات من إسار المركز. وبهذا المسلك، انتقلت من رفض النظام الاستبدادي إلى رفض الدولة (أنظر: غسّان سلامة، أين هم الديمقراطيون؟ في “ديمقراطية من دون ديمقراطيين: سياسات الانفتاح في العالم العربي الإسلامي”، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000). وهنا، في هذا المقام يتلجلج سؤال جدي مع أن الجواب عنه محيّر حقاً: هل المنطقة العربية إسلامية أم عربية؟ فإذا كانت عربية بالفعل، فلماذا تندلع الصراعات فيها بين السنة والشيعة والعلويين والدروز والمسيحيين وهم عرب خُلّص؟ وإذا كانت المنطقة العربية إسلامية، فكيف نفسّر المشكلات المستعصية مثل مشكلات الأمازيغ والنوبيين والأكراد والتركمان؟ وبما أن معيار العلاقات هو الطائفية أولاً وأخيراً فالأقباط يصبحون، في هذه الحال، أقلية. ولو كان المعيار وطنيّاً فإن الأقباط يصبحون مواطنين مثل إخوانهم المسلمين (راجع: عزمي بشارة، “هل من مسألة قبطية في مصر؟” بيروت – الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012). ولعل من نوافل الكلام أن تركيا لم تتحوّل إلى الحداثة أو إلى الإصلاح إلّا بعد هزيمتها أمام روسيا في حرب البلقان في 1878، وكذلك روسيا التي انتقلت من حكم القياصرة إلى حكم البلاشفة جرّاء هزيمة روسيا في الحرب العالمية الأولى.

 لا يملك أهل المشرق العربي اليوم من أوراق السياسة غير “الأوراق المسمومة” أي النزاعات الأهلية والغرائز الطائفية والتعصّب الديني والرثاثة الاجتماعية

لا يملك أهل المشرق العربي اليوم من أوراق السياسة غير “الأوراق المسمومة” أي النزاعات الأهلية والغرائز الطائفية والتعصّب الديني والرثاثة الاجتماعية والانحطاط بأشكاله المختلفة، والتفاهة الفكرية وغياب الثقافة وانهيار التعليم وتهتك المعرفة في سياق عدم التطلّع إلى المستقبل. وها هي إيران مهدّدة بالسقوط، لكنّها متعلّقة بأرديتنا المهلهلة، وتتكمش بأيدينا الواهنة، أي أننا، نحن أيضاً، سنتساقط معها كالصواريخ الطائشة، وقد كانت عملية “طوفان الأقصى” في 7/10/2023 عملية عسكرية كبيرة جداً من حيث عقابيلها، بل هي عملية انتحارية توازي في نتائجها حرباً كاملة. وهذه العملية جعلت إسرائيل تدوخ وتترنّح عدة أيام فقط. غير أن تبعاتها على الشعب الفلسطيني، وعلى شعوب المشرق العربي، كانت أكثر بكثير مما يمكن أن يحتمله الشعب الفلسطيني، فكان من نتائجها تدمير قطاع غزة، وقتل نحو 70 ألفاً من سكانه، وخلط رماله بدماء الناس ولحوم أجسادهم، وإنزال البلايا بحركة حماس (ومعها حركة الجهاد الإسلامي) وبحزب الله، وصعود المكانة الجيو استراتيجية لتركيا وإسرائيل، والمكانة السياسية لنتنياهو. إنه السلام الإسرائيلي pax Israeliana الذي يغمُر الآن المشرق العربي بأسره، بعدما وَرِمَتْ أنوف حكام عرب تفاخراً بأنهم وقفوا إلى جانب أميركا ضد الاتحاد السوفياتي، وحاربوا الشيوعية في البلاد العربية، وقاتلوا إلى جانبها ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وموّلوا العمليات القذرة لاستخباراتها في نيكاراغوا وغيرها (الكونترا مثلاً)، وسهّلوا لها احتلال العراق وابتلاع ليبيا، وأمّنوا لها دائماً البترول، واشتروا السلاح منها، وخصّصوا لها المشروعات الكبرى، واعترفوا بإسرائيل، وأعلنوا على الملأ إنهم لن يحاربوها. ومع ذلك لم تفعل الولايات المتحدة للعرب أي شيء لقاء ذلك، خصوصاً في فلسطين.

أين سرّ ذلك كله؟ وللأسف والأسى والغرابة معاً، التغيير العربي الوحيد الملموس في هذا الميدان، وهو تغيير عجيب، أن بعض الدولة العربية قد انتقلت علناً، لأول مرة منذ سبعة وسبعين عاماً، من دول معادية لإسرائيل إلى دول صديقة لها، بل إلى حليفة. ومن علائم الفجور السياسي أن إسرائيل صارت تتمتّع بعمق شعبي عربي داعم لها. ويتجلى ذلك في انتشاء فئات شعبية مبتذلة، في سورية ولبنان على وجه الخصوص، بالجرائم التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين واليمن وسورية وإيران. ولم يبقَ لنا، بعد أن نسدّ أنوفنا، إلّا أن نردّد مع الشاعر العربي أوس بن حجر: أيتُها النفسُ أجمِلي جَزَعا/ إن الذي تحذرينَ قد وقعا.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى