السوريون وصراعُ “الظَالِمَيْن” النوويَّين…

عبير نصر

في عالم تسوده جيوش التجسّس والتكنولوجيا والمسيّرات وحملات التضليل، يبدو أنّ حرباً سيبرانية لا مركزية تجتاح القارّات، وكأنّ “السلام المديد” الذي تبنّاه المؤرّخ جون لويس جاديس يصفُ عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية قد انتهت دورة حياته، والسؤال الملحّ: إلى أيّ مدى نقترب بالفعل من حربٍ عالميةٍ جديدة، بينما كلّ قوة عظمى لم تتوقف يوماً عن الاعتقاد بأنّ الآخر يمثّل خطراً استراتيجياً عليها؟ والأمر كذلك، فإنّ مقولة ونستون تشرشل “الحروبُ تعمل على تنقية الأجواء مثل عاصفة الصيف” لم تعد صالحة للاستهلاك السياسي، فالإشارات هي إلى ما يعكّر صفو العالم ويزيد سادته عجرفة وعبثاً. ومهما يكن من أمر الحرب بين أوكرانيا وروسيا، بقيادها قيصرها المتعطش لاستعادة أمجاد الإمبراطورية البائدة، فالخطر الأكبر يتمحور حول الصراع الإيراني – الإسرائيلي الذي تندلع شرارته في كلّ مرة ربطاً بتطوراتٍ غير معلنة، واليوم يتسيّد صدارة الصراعات العالمية الأكثر قابلية للتمدّد، وقد وصل إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، تزيده خطورة أنّ تبعاته ستصل إلى منطقة الشرق الأوسط، وتغذّي بؤر التوتر في البلدان التي تقع تحت سطوة جنون التنافس بينهما.

ليس هذا الافتراض إشكالياً ألبتة، فالتحوّلات السياسية في بلدانٍ تآكلت فيها الأذرع الفارسية ولّدت مزاجاً عدائياً محموماً تجاه إيران، يُضاعف من احتماليّة نشوب حربٍ ملتهبة، رغبةً من الأخيرة بالانتقام من الإذلال الذي تجرّعته، في سورية تحديداً. بالتالي، يجب النظر في حقيقة أنّ الدول الحليفة لطهران يتمتع زعماؤها باستدامةٍ سياسية لن تنتهي صلاحيتها قريباً، (روسيا، الصين، كوريا الشمالية)، لذا سنرى تحالفاً مديداً بين هذه الدول يضع العالم دائماً على حافّة الخطر، ومع وجود فارق كبير في السياقات التاريخية تبقى النتائج مرهونة بالفجوة الإجمالية في القوة بين هذا التحالف المتعنّت والمعسكر الغربي التي تقوده أميركا، ومن خلفها إسرائيل.

بالتساوق مع ما تقدّم، صرّح هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركية السابق، في حوار له: “الحرب العالمية الثالثة باتت على الأبواب، وإيران ستكون ضربة البداية، وسيكون على إسرائيل قتلَ أكبر عدد ممكن من العرب واحتلال نصف الشرق الأوسط”، وعليه فصراع الظلّ بين المشروعين، الصهيوني والفارسي، في المنطقة العربية، يهوي في سقوط حر، خاصة أنّ كوابح الحرب تبدو أضعف مما تبدو عليه عادة، بعدما شنّ الجيش الأميركي ضربات بالغة القوة على ثلاث منشآت نووية دمّرتها تماماً، وفقاً للرئيس الأميركي، ترامب، الذي سبق أن قال إنّ “إسرائيل تُبلي بلاءً حسناً، وأميركا تقدّم لها الدعم الكثير”، ولربما تكون البداية فقط، بعدما أكّد وزير خارجية إيران، عباس عراقجي، أنّ بلاده لن تُوقف تخصيب اليورانيوم وأنّ ما فعله الأميركيون خيانة للدبلوماسية، في وقتٍ لا يملك فيه أنصار سياسات ضبط النفس ترفَ لجم المسير المحتمل نحو حرب طاحنة ستعقّد الوضع الإقليمي، حيث آلاف الرؤوس النووية على أهبة الاستعداد، وسيجعل هذا كله الكوارث التي خلّفتها حروب سورية وغزّة وأفغانستان والعراق تبدو ناعمة بالمقارنة.

فقد السوريون دورهم في أيّ صراع إقليمي، وشبح الحرب الأهلية ما زال منتعشاً بعد سقوط الأسد

خيارات المواجهة بالتأكيد مفتوحة على كل أنواع السيناريوهات. وعلى أية حال، لافتٌ أنّ المكسبَ الثابت للنظام الإيراني القمعي ردّه الذي جاء بتأييدٍ شعبي واسع، ليكشف التصعيدُ الإسرائيلي وجودَ حالةٍ من النضج بين صفوف المعارضة الأكثر خصومة للنظام الحاكم، وهذا لم يحصل في سورية مطلقاً. لا الضربات الإسرائيلية، ولا سقوط بشّار الأسد، ولا حتى المجازر الدموية، كلّ ذلك لم يستطع أن يوحد السوريين الذين يتابعون بشماتةٍ مآلات التصعيد بين عدوّتين لم تجلبا لبلادهم سوى الويلات، وبالجُملة. في المقلب الآخر، فإنّ سقوط النظام في طهران ومن دون ترتيبات ملء الفراغ، وإن بدا حلماً وردياً للسوريين، سيحمل في طيّاته احتمال فوضى شاملة ستمتد إلى بلادهم، وتزيد طين حياتهم بلّة. ومن المهم في هذا السياق التوقف عند دلالات هزيمة إيران واحتساب عواقب ذلك، منها استغناء الغرب عن حكومة الشرع ذات الخلفية المتشدّدة، ما سيؤثر حكماً على الاستقرار السوري، فالسقوط الإيراني لم يكن لحظة تحرّر تاريخي فحسب، بل كشف عن أمراض “مزرعة الأسد” المزمنة، وغياب أيّ رادع وطني أمام تغوّل قوى إقليمية أخرى لا تقلّ عداءً وخطراً، بينما لا يُدرك السوريون أنّ زعماء العالم يؤججون الحروب دائماً ليرفعوا أنخاب نهايتها في قصورهم الفارهة، وأنهم ضحايا اتفاقيات واحتلالات وانقلابات وأنظمة استبدادية، يتمّ توزيعهم خلالها كغنائم حرب لقاء حماية العروش والحدود.

يقول الفيلسوف الصيني سون تزو في كتابه فنّ الحرب: (كلّ الحروب خداع، وكلّ خداع حرب)، وكالعادة، السوريون المنقسمون حول كلّ شيء أغرتهم مجدداً لعبة الانجرار إلى ساحة الاصطفاف العقائدي، وتناول الحدث الدسم الذي لن ينالهم منه سوى جوع مُحتّم، ففتحوا ساحات الاحتراب على وسائل التواصل الاجتماعي، وانشغلوا بالجدال العقيم بينما يصل التوغل الإسرائيلي إلى قرية “بيت جن” في ريف دمشق، ليقتل ويعتقل مدنيين. ومن المضحك المبكي مطالعة التحليلات التي تعكس الخدعة الكبرى التي يعيشها السوريون، وهم يتابعون بفرحٍ غامر الصواريخ الإيرانية والإسرائيلية تضيء سماءهم كما تضيء قلوبهم. شريحةٌ منهم تدعو الله أن يضرب الظالمين بالظالمين من منطلق أنّ “قتلة الشعب الفلسطيني يتصارعون مع قتلة الشعب السوري”. هناك فئة تُعرب عن حقّ إيران في الدفاع عن حقوقها النووية السلمية، وتدعم مواقفها المعادية لإسرائيل في ظلّ التخاذل العربي، بينما أخرى، وإنْ تعتبر إسرائيل ليست جمعية خيرية، تتحدث عن انتفاء الحاجة لوجود حكم “سنّي” متشدد في سورية يقارع إيران “الشيعية” إذا ما قُدّر للأخيرة الهزيمة، تماماً كما يروّج آخرون فكرة أنّ إيران تبقى عدو الأمة العربية الأول، وأنّ إسرائيل تمثّل نموذجاً ديمقراطياً فريداً في هذا الشرق التعيس، وينسون أنّ كلتيهما تنظران إلى المنطقة من منظور مصالحهما التاريخية المتضاربة، لا من زاوية التضامن أو حتّى العداء.

إسرائيل تسرح في الجنوب السوري، وعينُها على دمشق، والخطر الإيراني لن يُخلع من جذوره، ولن يقابله أيّ مشروع سوري حقيقي

ومن واقع رصدٍ وتحليلٍ منطقي، في ضوء غياب النموذج الوطني الذي سيُبنى عليه، فأكثر ما يؤلم أنّ السوريين فقدوا دورهم في أيّ صراع إقليمي، أما شبح الحرب الأهلية الذي ما زال منتعشاً بعد سقوط الأسد لم يرغمهم على إعادة التفكير في فكرة النصر نفسها. هل انتصر السوريون فعلاً بينما الطائفية تقتلهم ولغة الشماتة ومنطق الانتقام يعميان بصيرتهم؟ وهل ستفيدهم هزيمة إيران أو حتى إسرائيل، بعدما تحوّلت سورية مسرحاً لصراع جيوسياسي مفتوح بين المشاريع الغربية العابرة للحدود على حساب استنزاف الأمل السوري في بناء دولة المواطنة والكرامة؟

نافل القول: إسرائيل تسرح في الجنوب السوري، وعينُها على دمشق، والخطر الإيراني لن يُخلع من جذوره، ولن يقابله أيّ مشروع سوري حقيقي، أقلّه على المدى المنظور، يكفّ يد طهران التي غالباً ما تنصب فِخاخها بهدوء وحنكة عالية. إذاً لا بدّ من تجاوز لذّة الشماتة ونشوة النصر، وإن ضَربَ “الظالِمَان النوويَّان” بعضيهما بعضاً فثمّة حلول جاهزة عند الطلب، محفوظة في الأدراج السرية لقادة العالم، ومن المفيد اليوم التساؤل بتروٍّ شديد: من سيملأ الفراغ السوري بينما الشرق الأوسط تُرسم خرائطه من جديد؟ وهل سيشهد السوريون تكرار انقلابٍ مفاجئ أو استباحةٍ سافرة، تحت رايةٍ وذريعةٍ أخريين؟

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى