ماذا يريد السوريون فعلا؟

رشا عمران

كيف يمكن التعامل مع ما يحدث في سوريا ونقاشه وتفكيك أصوله وأساسياته وتفنيدها لمحاولة فهم سياقاتها أو تصويبها، أو وضع خطط موازية ورؤى أخرى للخروج من الخناق المطبق الذي يكاد يخنق المجتمع السوري، رغم الخلاص من المسبب الأول لهذا الخناق، كيف يمكن التعامل مع كل الأحداث المتلاحقة والقرارات السريعة والأخطاء (الفردية) التي تكاد أن تكون نهجا عاما في الحكم، وكيف يمكن أن تتحقق التشاركية في بناء سوريا، مادام ثمة تهم جاهزة لكل من يرى الأمور من منظور مختلف عما يراد له أن يكون السائد، ومادام هنالك سوريون مستعدون وجاهزون للإساءة لتاريخ أي كان إن انتقد الحكومة أو عملها أو قرارتها أو سلوك مسؤوليها وعناصرها؛ ومادامت تهم من مثل: أقلوي حاقد وفلول انفصالي وخائن وعلماني كافر، هي تهم جاهزة لتلبس على تاريخ أي شخص عاقل يحاول مناقشة ما يحدث من وجهة نظر مختلفة لا تتوافق مع رؤية الحكومة الجديدة. وتعيد للأذهان سلسلة الاتهامات التي كان يطلقها مؤيدو وشبيحة النظام السابق، قبل الثورة وبعدها، على كل من يعترض على قرارات الحكومة وسلوك النظام والفساد والإجرام، كانت هناك أيضا تهم جاهزة: العمالة لإسرائيل والغرب. الحقد الطائفي، الإرهاب أو تأييد الإرهاب وتمويله، وطبعا وهن نفسية الأمة. هل يختلف الأمر اليوم كثيرا؟! على الإطلاق، ما يحدث هو تعديل قائمة الاتهامات بما يتناسب مع معارضي السلطة الحالية، مع إضافة بعض المصطلحات التي تناسب المرحلة من مثل: “عوي ولاك، الطم بترتاح، وين كنت من 14 سنة، من يحرر يقرر، وطبعا: أعداء الأمويين”.

قد يبدو من المفهوم أن كثيراً من السوريين، ممن شعروا بالتهميش خلال الحقبة الأسدية، ولنسمي الأمور بمسمياتها: كثير من السنة السوريين، الذين يرون أن الحكم يجب أن يكون للأكثرية العددية في سوريا، يتمسكون بالسلطة الحالية لمجرد شعورهم أنها تمثلهم طائفيا ومذهبيا، الأمر الذي يجعلهم يستميتون في الدفاع عنها ضد كل انتقاد أو اعتراض، وكأن الانتقاد لهم هو بمنزلة انقلاب على السلطة الحالية، أو أن الاعتراض أو المعارضة للسلطة كفيلة بإسقاطها، رغم أن الغالبية العظمى من السوريين يرون حاليا أن سقوط هذه الحكومة سوف يفتح بابا واسعا لفوضى قد لا تبقي في سوريا سوى الخراب الكامل، إلا أن من يعارضون اليوم السياسات والقرارات التي تتخذها الحكومة الانتقالية يرون، من جهة أخرى، أن العشوائية في إصدار القوانين، وعدم إدراك ما يحق للحكم الانتقالي التصرف به، والاستئثار الفاضح بالحكم وإقصاء الجميع تقريبا خارج المنتمين للفكر السلفي، وحكم سوريا كما لو أنها محافظة صغيرة منسجمة ديمغرافياً، وعدم الاكتراث بالتنوع الكبير لثقافات مكوناتها، وانعدام الخبرات في التعيينات وارتكاز معظمها على الحاصلين علي شهادات شرعية دينية، سوف يصل بسوريا إلى نفس النتيجة: فوضى عارمة قد لا تبقي في سوريا شيئا. وهذا للأسف لا يكترث له كثر جدا من الموالين للسلطة الجديدة، ممن يعتقدون أن (الإسلام هو الحل)، وأنه طالما أن الحكومة تنتمي للأكثرية فهذا بحد ذاته يضمن صلاحها ونجاحها في حكم سوريا وتحقيق الازدهار والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

أكثر من ستة أشهر مرت على سقوط الأسد واستلام هيئة تحرير الشام للسلطة مع كل وعودها بالتشاركية والعدل والأمان، إلا أن أي شيء من عودها لما يتحقق بعد، ما زالت الفوضى الأمنية والانتقامات العشوائية (معظمها ذو طابع طائفي) تمتد علي طول البلاد وعرضها. ومازالت الحالة الفصائلية والميليشاوية لعناصر وزارة الدفاع هي السائدة أيضا، مازال الاقتصاد منهارا من دون وضع أي خطط اقتصادية استراتيجية لإنقاذ الاقتصاد السوري خارج وضع سوريا كلها تحت بند الاستثمارات، وبيع مقدراتها وتأجيرها لمستثمرين سوريين وعرب ودوليين (بشار الأسد فعل ذات الشيء ورهن سوريا لروسيا وإيران) وخصخصة كل القطاع العام من دون أدنى تقدير لمدى تأثير هذا النوع من الخصخصة على المواطن السوري المطحون ولا على مستقبله ومستقبل أبنائه ومستقبل الأجيال السورية القادمة.

رغم أن تجارب الدول العربية القريبة في عرض أصول البلاد للاستثمارات والخصخصة هي تجارب أثبتت فشلها الذريع في تحقيق أدنى نوع من أنواع التنمية أو النهضة الاقتصادية والمجتمعية، بل حولت دولا عظيمة إلى دول تابعة وتكاد تكون معدومة القرار السيادي، وفي نفس الوقت لم تتمكن من جعل الأنظمة الحاكمة مستقرة. فكيف سيكون الحال في بلد مثل سوريا خارج من حرب طويلة مدمرة. وتعيش مكوناته المجتمعية تحت خطر الانفجار والحرب الأهلية في كل لحظة، من دون أن تظهر أية مبادرة من السلطات الحاكمة الجديدة لدرء فتنة الانقسام الطائفي في البلد، أو إيجاد حلول عملية تضمن عملية التقدم في خطوات بناء السلم الأهلي والأمان المجتمعي المهدد بفكر الانتقام والثأر ونفير الجهاد وخطاب المظلومية، وهذه حيثيات لا توجد حلول لها إلا بتحقيق العدالة الانتقالية الحقيقية وليست الشكلية كما يحدث الآن، وإلا ببناء دولة مواطنة مدنية وعادلة وتساوي بين جميع مواطنيها. وهو أيضا ما يبدو شديد البعد عن تفكير السلطة الحالية التي يبدو مفهومها للدولة وبنائها مقتصرا على الولاءات التي تذكر بمفهوم القبيلة والعشيرة لا مفهوم الدولة الحديثة، خصوصا مع ما يرشح من أخبار عن اعتماد أسلوب (الشنطة) في حل الأزمات المفاجئة. يريد السوريون دولة حقيقية، حتى المغالون في موالاة السلطة الجديدة، بعد وقت قصير سوف يكتشفون أن هذه العشوائية في حكم سوريا سوف تكون وبالا عليهم، وسوف يرون أنفسهم خارج كل شئ مثلهم مثل البقية، في حين مكتسبات الحكم توزع على (أهل الثقة والحظوة). يريد السوريون مجتمعا حقيقيا سليما ومعافى يمكنهم من العودة إلى حياة طبيعية يعملون فيها في مهنهم العادية في الزراعة والتجارة والحرف والاقتصاد والمهن الخدمية. يريدون تعليما حقيقيا لأبنائهم يجعلهم في قلب حداثة العالم وتطوره،  يريدون قضاء عادلا ونظاما صحيا يشمل الجميع، يريدون أمانا لشيخوختهم، وضمانات لحقوقهم وتنوعهم الثقافي كأفراد وكمجموعات. يريدون وطنا عادلا بعد عقود طويلة من التهميش. تريد النساء السوريات حقوقها المتساوية مع حقوق الرجل في كل شيء، لا تريد من يتحدث باسمها ويحدد لها شكل حياتها وشكل لباسها وشكل دورها في المجتمع. هذا لا يبني دولة حديثة، هو بالكاد يبني دولة تنتمي إلى نماذج حكم نرى بأم أعيينا كيف تتفكك الآن داخليا وخارجيا ولم تعد صالحة لوقتنا الحالي الذي تتغير فيه كل أشكال ومنظومات حكم سادت لوقت طويل من الزمن.

يريد السوريون ما يجعلهم يشعرون أنهم متساوون مع غيرهم من الشعوب، وقادرون على منافستها، وهذا لا يمكن له أن يحدث عبر الاستفراد بالحكم وعشوائية القرارات والاتكال علي مجموعة من المؤيدين الغوغائيين المجهزين لإسكات كل صوت معارض أو منتقد، هذا يحتاج إلى معارضة حقيقية، تصوب الخطأ وتشير إلى مواطن الخلل، وتحتاج إلى عمل سياسي حقيقي، وإلى عمل مدني يشمل كل الفضاء السوري العام ويشمل كل مكونات السوريين، هذا يحتاج إلي منظومة فكرية متخلية عن الفكر السلفي غير الصالح لا لسوريا ولا للزمن الحالي بمتغيراته المثيرة، ومتخلية عن فكر (الشيخ والمجاهد وولي الأمر) لصالح القانون والمؤسسات والنظم الإدارية الحديثة. ومتخلية عن فكرة الولاء لصالح المواطنة، وعن فكرة الخلافة والشورى لصالح الديمقراطية وعن فكرة العسكرة لصالح المدنية والجهاد الديني لصالح الأمن الوطني. هذه ليست تفاصيل، هذه أسس تقوم عليها الدول الحديثة ولا يمكن تأجيلها تحت ذرائع من مثل: ” أعطوهم فرصة” أو ” السوريون تعبوا” أو ” السوريون يريدون الأكل والشرب والكهرباء” تلك هي الذرائع التي تصبح قواعدا تبني عليها أنظمة الحكم الفاشية والمستبدة أذرعها التي سوف تطول، بعد حين، الجميع، حتى أكثر المواليين مغالاة في موالاتهم.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى