بوصلة رئيس الوزراء السوداني

عمر العمر

كأنما لمّا تدرك غالبية السودانيين بعد ما ينبغي عليه المشهد السياسي بعد الحرب الرعناء الهوجاء، فالحرب حرثت، بل أحرقت التربة السياسية على نحو أفقد الزرع القديم جدواه والشجيرات النحيلة ظلالها. يستوجب الواقع الراهن بذوراً جديدة وإنباتاً مغايراً. ذلك زمن القطيع السياسي والراعي الصمد. نطام مبنيٌّ على روح العشيرة، القبيلة، فالحزب الواحد والرئيس الأوحد. لو لم يبرز لهم فرعونٌ لاخترعوه، فالنظام العتيق المتوارث يعظّم دور الفرد، غير آبهٍِ بحال المؤسّسة. حتى جماهير ثورة ديسمبر الشعبية البازخة لم تحطّم تلك الأصنام، بل اختلقت من عبد الله حمدوك صنماً جديداً. عندما التهمه العسكر انتكست الثورة برمّتها. لأن جماهيرها لم تلتفت إلى أهمية بناء مؤسّسات ثورية. لم تدرك الصفوة المتصارعة حالياً حول استمرار الحرب وإطفائها بعد مواجهة الدولة بأسرها حتمية النهوض من تحت الركام أو الاستغراق في حضن الممات. لذلك يتصاعد جدل عقيم رهاناً على مدى نجاح كامل إدريس فرعوناً جديداً. لا صوت ينادي بأولوية إعادة بناء مؤسّسات الدولة على نسق حداثي.

***

الشعب السوداني داخل مأزق مأزوم لم يقترب من مثله عبر تاريخه غير السلس، فهو يعايش الطرد، التشريد القسري والشتات العائلي في الداخل والمنافي الاضطرارية، بل الدولة بأسرها عند حافّة مفترق هاويات. مع ذلك، تزداد المسافات الفاصلة بين القوى السياسية المتصدّعة تباعداً. لم تشعر ما تُسمّى النُخب بعد بالخطر المستشري في جسد الوطن على نحو يهدّد وحدة الشعب ومشروعه الحياتي. النظام القابض بقوة السلاح على مقاليد الدولة المنهارة عاجزٌ عن إدراك المصالح الحقيقية للشعب. خطابه السياسي في حالة ارتباك يفتقد الحد الأدنى من التماسك المنطقي، من ثم الإقناع، لذلك تتسع الفجوة في السودان بين السلطة والمواطن كل صباح ومساء.

يعايش الشعب السوداني الطرد، التشريد القسري والشتات العائلي في الداخل والمنافي الاضطرارية

***

صحيحٌ أن الجيش تمكّن من تفكيك معاقل لمليشيا الدعم السريع، لكن وتيرة العنف لا تزال تتسع وتتصاعد. أعداد الضحايا تتزايد، كُلف الخسائر تتواتر. معاناة الشعب لم تنفرج إن لم تزدد استحكاماً تحت ضغط الإحباط المتحالف مع ضغوط المعاناة الحياتية. الكلام عن الاقتراب من انتصار حاسم يضع نهاية للحرب يتجاوز التعبير عن الأمنيات والأحلام إلى الغفلة السياسية، فالشعب لا يزال يقاسي صيفاً ملتهباً بالأزمات والتبعثر. الأزمة المركزية للحرب لم تقاربها أي جهود جوهرية لجهة التفريج. المشهد الوطني كله مزروعٌ بألغام قابلة للانفجار وأخرى للتفجير. الحرب لم تكن يوماً خياراً للشعوب بغية حلحلة قضاياها الداخلية، بل هي إجراء تتبنّاه القيادات السياسية لحسم خلافاتها أو خلافاتها مع آخرين. التسويات السياسة تظل أقلّ كلفةً وأسرع حسماً. ولنا في قضية الجنوب عبرة وعظة.

***

لو تجاوب نظام الإنقاذ مع نداء نافذ الرؤى أمين عام الحزب الشيوعي الراحل محمد إبراهيم نُقد، مطلع القرن الجديد، بتنظيم حوار في شأن أزمة دارفور على نسق مسار مشاكوس الخاص بقضية الجنوب، لأخمدنا الحريق في الغرب وهو شرارة. أحداث دارفور وقتذاك في بدايات تشكّلها أزمة، لكن النظام كان يُسيّر أمور البلاد والعباد خارج مؤسّسات الدولة. لا يهم ما إذا كانت مفاتيح القرار بيد الرئيس الفرد أم بين أيدي اثنين ثالثهما الشيطان. تلك هيّ الأزمة، فنظام الإنقاذ ظلّ رهين عقلية القطيع، بل بذل جهودا بغية تعميق ذلك النهج الشائه. فهو لم يكتف بتحطيم مؤسسات الدولة، بل جنح إلى تعظيم دور الفرد (أو ربما الشلة) في تبنّي القرارات والسياسات. من أجل “تأصيل” ذلك النهج، عمد إلى إيقاظ العشائرية والقبلية والطائفية فمحق مؤسّسية الدولة.

الأولوية لتفكيك الاستعصاء السياسي. ربما قبل ذلك، استرداد السلم الوطني، ثم العمل العام بروح الفريق داخل المؤسّسة

***

على أي رئيس وزراء يعمل لكتابة تاريخ مجيد أولاً إعادة الشأن العام إلى قنوات مؤسّسات الدولة. ربما تُعين الأرضُ الخراب بفعل الحرب الرعناء على استثمار سياسي جديد، فمن يراهن على دور طليعي لرئيس الوزراء المسمّى ليكن معياره مدى تهشيم الفرعون وعقلية روح القطيع. هذه مهمة لا يعتمد نجاحها على حكومة رشيقة أو مترهلة. حتى ما يجرى ترويجه بشائر للتغيير؛ استبدال أسماء وزارات ودمج أُخريات وإلغاء بعضها يتم هذا كله بعقلية الفرعون، كما يكرّس روح القطيع، فإعادة بناء دولة لا تزال تحت الأنقاض والركام لا يتم وفق رؤية مصدرها الاجتهاد الفردي تضع الدولة كلها قيد التجريب. لا نحتاج في السودان فقط إلى استرداد المؤسّسية، بل لا بد من ترميم هشاشة البنى السوسيولوجية وشدّ أواصرها داخل إطار الوحدة الوطنية. هذا إنجاز لن يتّأتى ما لم يحدُث انسجام أو على الأقل تنسيق بين القوى السياسية. لهذا، لا يقتصر دور رئيس الوزراء في هذه المرحلة الحرجة على العمل التنفيذي.

***

ربما هو أجدى لنا في السودان، ولرئيس الوزراء كامل إدريس، لو حاول بدلاً عن الجولات بين القواعد العسكرية والموسّسات الخدمية السعي للتواصل بين القوى السياسية بحثا عن الاصطفاف الوطني. كما هو أنفع فيما لو استهدف تشكيل فريق عمل (رشيق) يعالج مسألة إعادة بناء هيكل الدولة بدءاً من السلطة التنفيذية .بغض النظر عن النتائج، ففي مثل هذه المحاولات، ما يؤشّر إلى منهج لاستبدال عقلية المؤسسة بروح القطيع. مثل هذه الخطوات لا تخرج كامل إدريس فقط من ثكنة حاضنته العسكرية.بل تنزع عنه وصمة أنه ابن الأنظمة الشموليه. أكثر من ذلك، تسبغ عليه هالة من كاريزما مطلوبة في إلحاح للقيادات الوطنية في مستقبل منقطع عن سيرورة روح القطيع والراعي. الرهان الوطني لا يحمّل كامل إدريس فقط قيادة السلطة التنفيذية. الأولوية لتفكيك الاستعصاء السياسي. ربما قبل ذلك، استرداد السلم الوطني، ثم العمل العام بروح الفريق داخل المؤسّسة. هذه بوصلة النجاح لأي رئيس وزراء يرغب في “العبور والانتصار”. فهل يملك كامل إدريس مثل هذه البوصلة!

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى