في “تكويعة” أيمن أصفري

إياد الجعفري

كانت ملفتة تلك الصورة التي نشرتها وسائل إعلام مقرّبة من السلطة في دمشق، للقاء الرئيس أحمد الشرع مع رجل الأعمال السوري- البريطاني، أيمن أصفري. إذ كانت ابتسامة الرجلين جليّة للغاية، ولا تظهر أي ضغينة بينهما، وذلك بعد ثلاثة أسابيع فقط، من توجيه أصفري انتقادات حادّة لمنهج الشرع في التأسيس لإدارة البلاد سياسياً وأمنياً.

وبقدر ما كانت الصورة ملفتة، بقدر ما كان ملفتاً إلحاح وسائل الإعلام المقرّبة من السلطة، على توصيف هدف اللقاء بشكل محدد: “لبحث الاستثمار في قطاع النفط”. فأصفري، الذي أطل قبل أسابيع فقط كمنتقدٍ مباشر للسلطة الجديدة، برؤية سياسية على الضفة المقابلة لها، يلتقي رأس الهرم فيها، اليوم، كرجل أعمال متخصص بقطاع النفط، لا أكثر. هكذا كانت الرسالة المراد توجيهها. وعلى هامش الإعلام السلطوي أو المقرّب منه، تبرعت منصات إعلامية وأفراد كثر، لتقديم قراءات أو حتى تسريبات مجهولة المصدر، لما دار في الاجتماع. وكان جليّاً أن تلك المنصات أو الأفراد، يدورون في فلكٍ قريب من دائرة نفوذ أصفري، الذي يموّل أكبر تجمع للمنظمات المدنية السورية التي كانت ناشطة خلال العقدية الفائتة.

أما ردود فعل النشطاء والمعلّقين السوريين البارزين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيال اللقاء وكيفية إخراجه رسمياً، فانقسمت في دائرتين رئيسيتين. الدائرة الأولى، هي تلك التي كانت تراهن على أصفري بوصفه رأس حربة قوة سياسية معارضة للسلطة الجديدة، عمادها البرجوازية السورية المهاجرة، بما تملكه من خبرات استثمارية وعلاقات سياسية خارجية، وفي حالات، استخباراتية أيضاً. كان رهان هؤلاء على أصفري أن يقود مشروعاً سياسياً معارضاً للإدارة الحالية، التي استفردت بالسلطة، وأخذت تؤسس لبناء دولة عميقة خاصة بها، داخل مؤسسات الدولة السورية. المحسوبون على هذه الدائرة، أصيبوا بخيبة أمل كبرى من لقاء الشرع بأصفري، وكيفية توصيف هذا اللقاء، ونزع أي حمولة سياسية له.

أما الدائرة الثانية من المعلّقين على اللقاء، فهم المحسوبون على السلطة، أو القريبون منها في رؤيتهم. والذين وجدوا في اللقاء فرصة للإشادة ببراغماتية الشرع، الذي التقى أصفري بوجه بشوش، بعد أسابيع فقط من انتقاد الأخير له. كما وجدوا في ذلك فرصة للنيل من أصفري، بوصفه فشل في الإفادة من هجومه اللاذع ضد الشرع في لقائه عبر هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، والذي جاء قبل أيام فقط من رفع العقوبات الأميركية، ولاحقاً الأوروبية. ووفق أصحاب هذا الرأي، “كوّع” أصفري سريعاً، ليستعيد ثوب المستثمر الباحث عن المكسب المالي، محدود الأفق سياسياً. ولم يسلم أصفري، في هذا السياق، من إدانة هؤلاء، بوصفه كان يريد “تخريب” مسار المرحلة الانتقالية بانتقاداته اللاذعة من الخارج، بعد أن خاب رجاؤه في الحصول على موقع رئيس الوزراء المُنتظر، نهاية شهر آذار الفائت.

في السرديات والمعالجات السابقة للقاء الشرع- أصفري، تتحكم المواقف المسبقة بالتحليل. وتغيب القراءة المتفحصة للخيارات المتاحة لكلا الرجلين. فالشرع التقى أصفري، المنتقد بشدة له، في وقتٍ يحاول فيه تعزيز صورة نقيضة لبشار الأسد، الذي سبق أن التقى كثيراً من رجال الأعمال السوريين والعرب ورحب بهم، لكن حين تطرق أي منهم للسياسة، كان النبذ، وفي حالات أكثر من ذلك، نصيبهم. في هذا التوقيت الحساس، الذي يتعرض فيه حكم الشرع لاختبار أداء من جانب القوى الإقليمية والدولية المراهنة عليه، لا يبدو أن الرجل يملك رفاهية نبذ من لا يحبه، أو لا يعجبه كلامه. خصوصاً إن كان هذا الرجل، بحجم أصفري، كرجل أعمال له صلاته السياسية والاستخباراتية العميقة.

وعلى الضفة الأخرى، وإن افترضنا أن أصفري يملك طموحاً سياسياً في سوريا -رغم نفيه ذلك- فما السبيل لشق طريقه باتجاه هكذا طموح، والتأسيس لمشروع سياسي مغاير للسلطة القائمة الآن في البلاد؟ لدى الرجل خياران في ذلك: الأول، أن يتحول إلى معارض شرس لنظام حكم الشرع من الخارج. وأن يستثمر موارده في المال والعلاقات العامة ضده. وفي ذلك إضرار بالسوريين وضيق أفق بهشاشة الوضع القائم في سوريا، واحتمال انفراط عقده، وما يعنيه ذلك من نتائج كارثية. كما أن هكذا اتجاه يعتبر عبثياً، جراء رهان القوى الإقليمية والدولية البارزة على تجريب إمكانية تأهيل سلطة الشرع لتكون شريكاً لها في المنطقة، لتوفير الاستقرار وإعادة الإعمار في سوريا جديدة، مختلفة عن تلك التي أرهق النظام السابق مختلف الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، بأضرار فوضاها. لذا، قد يكون الخيار الثاني لأصفري، وهو الأكثر نضجاً من الناحية السياسية، أن ينخرط في رهان المراهنين الخارجيين على إعادة تأهيل هذه السلطة. وأن يكون أحد الفاعلين في ذلك، عبر الدخول إلى سوريا استثمارياً، بصورة أولية، وربما بأشكال أخرى، لاحقاً. وفي سياق هذا الانخراط، على أصفري أن يختبر الهوامش التي يمكن له توسيعها، لأشكال نشاطه غير الاستثمارية. قد يكون من المناسب، أن يبدأ من تمويل منصة إعلامية مثلاً، ومن ثم اختبار إمكانية تشكيل حزب سياسي.

قد ينتقد كثيرون هذه القراءة، إذ يخشى هؤلاء أن الوقت المتاح لتوفير قوة سياسية معارضة ضيق للغاية. فهم يخشون استفراد السلطة الحالية بزمام القوة، وتحوّلها إلى دولة عميقة يصعب التحرر من سطوتها، مع نهاية المرحلة الانتقالية الممتدة خمس سنوات. لكن هل من المتاح غير ما فعله أصفري؟ في أدبيات السياسة، يميّز المتخصصون بين ثلاث مفردات: القوة، السلطة، والنفوذ. من يحوز الثلاثة، هو الأقوى، ويتدرج اللاعبون الآخرون، وفق ما يملكونه من هذه المفردات على أرض الواقع. فماذا يملك أصفري من هذه المفردات كي ينافس الشرع في مشروع سياسي مناوئ؟ اليوم، ربما لا يملك أكثر من النفوذ. لكن، إن استطاع العمل على الأرض، قد يوسّع موارده من هذه المفردات، بحيث يصبح هو أو أي لاعب آخر من غير المحسوبين على السلطة الحالية، منافساً جديراً بالقدرة على التأثير.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى