فظيعةٌ وسخيفةٌ ولا تُعجب أحداً

محمود الريماوي

قابلت برنامجَ المساعدات الأميركية الاسرائيلية لقطاع غزّّة موجةٌ من السخط الدولي، ولم يحظ بقبول أيّ طرف في المنطقة أو العالم. وواقع الحال أن هذا البرنامج لا يرمي إلى تقديم المساعدات أو معالجة الضائقة المعيشية أو إنقاذ الناس من المجاعة، بقدر ما يستهدف إذلال السكّان والتوزيع الانتقائي والشحيح للأغذية، وبما يؤدّي عملياً إلى حرمان الأغلبية من تلقّي معونات. إنها خطّة خبيثة وعديمة الإنسانية، فبدلاً من مدّ يد العون لمن جُوّعوا، يعمل هذا البرنامج على إذلالهم وإبقائهم جوعى، وفيما يتسبّب بإثارة الفوضى والتدافع الخانق، فإن قوات الاحتلال تواجه حالة الزحام (تسبّبت فيه) بقتل الجوعى ممّن يفقدون القدرة على السيطرة على أنفسهم. ومن الواضح أن هذه النتائج حتمية، وقد صمّم البرنامج من أجل الوصول إلى هذه النتيجة. وخلافاً لما يحدث في مثل هذه الظروف، حين تتقدّم الأمم المتحدة ومنظّمات الإغاثة والصليب الأحمر والهلال الأحمر وهيئات محلّية للقيام بهذه المهمة، فقد انبرت أطراف أمنية إسرائيلية وأميركية لتصميم هذا البرنامج المُعيب من أجل إنزال مزيد من العقوبات الجماعية بالمدنيين المنكوبين.

خطّة سادية، وليست أقلّ من ذلك، كما وصفها المقرّر الأممي الخاص المعني بالحقّ في السكن اللائق بالاكريشنان راجاغوبال. وهذا ما يفسّر القرار بإقصاء الجهات الدولية ذات الاختصاص التي تتمتّع بالكفاءة والخبرة المهنية الكافية في هذا المجال، وتوكيل جهات أمنية بهذا الأمر تحت عنوان مُفعم بالغشّ والكذب، وهو “مؤسّسة غزّة الإنسانية”، مع سيطرة أمنية كاملة على حجم المساعدات وطرق توزيعها وعدد المستفيدين منها. وهو ما حمل مدير هذه المؤسّسة جيد وود إلى إعلان استقالة فورية الأحد الماضي، بعدما تيقّن (كما قال) من أن المؤسّسة لن تؤدّي مهمةً إنسانية. واللافت أن أحداً في واشنطن لم يُعقّب على هذه الاستقالة المدوّية، فليس لديهم ما يقولونه وما يدافعون به عن هذه الخطّة المُشينة التي تتلاعب بتوقّعات الناس وبحاجتهم وبكرامتهم.

 مشهد شنيع يعيد إلى الأذهان صور الممارسات الاستعمارية في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، حين يترافق القتل مع الإذلال والحرمان من الوصول إلى الماء والغذاء والدواء

وكشف المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني، في معرض تعليقه على هذا البرنامج، أنه قد جرى تقليص عدد نقاط التوزيع من 400 نقطة، كانت موزّعةً في أنحاء القطاع، إلى ثلاث أو أربع فقط، لإرغام الناس على النزوح، كما قال، مضيفاً أن نظام توزيع المساعدات في غزّة إلهاء عن الفظائع، إذ يسترعي الانتباه حقّاً أن تنفيذ هذا النظام تواكب مع استمرار الفظائع (حرب الإبادة)، في مشهد شنيع يعيد إلى الأذهان صور الممارسات الاستعمارية في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، حين يترافق القتل مع الإذلال والحرمان من الوصول إلى الماء والغذاء والدواء، ومع الادعاءات الصفيقة بمدّ يد العون إلى المحتاجين. وفي المحصّلة، فإنّ الجوع يشتدّ على الجوعى، فيما يسقط بعضهم نتيجة التدخّل الناري لـ”ضبط الفوضى”، بينما يسقط آخرون في مواقع أخرى وفقاً لبرنامج القتل اليومي، الذي تواظب حكومة بنيامين نتنياهو على تنفيذه، وقبل يومين، كانت حكومة الاحتلال الفاشية قد قتلت 22 فرداً من عائلة واحدة. ووفق أسلوب الرئيس دونالد ترامب في الحديث، فإن خطّة المساعدات هذه فظيعة، سخيفة، ولا تعجب أحداً، ومن الواجب العودة الفورية إلى الاستعانة بالهيئات الدولية ذات الاختصاص لأداء هذه المهمّة، فمن المثير للسخرية أن تتولّى جهات أمنية واستخبارية مهمّة تصميم برنامج مساعدات، وأن تنفّذه، ما يدلّ على أن الهدف سياسي وأمني، وليس إنسانياً على الإطلاق، كما ألمح المسؤول التنفيذي المستقيل، وهو مدير أميركي نزيه وأمين ويستحقّ كلّ احترام.

تماشت خطّة المساعدات مع سعي الاحتلال إلى السيطرة على ثلاثة أرباع القطاع

وبينما غابت ردّات الفعل الأميركية على ما أثارته الخطّة المزعومة للمساعدات من نقد شديد، فإن ما يثير أقصى درجات القلق هو أن يجرى تصميم الحلول السياسية لقطاع غزّة وللصراع الإسرائيلي الفلسطيني وفق هذا المنظور الذي عبّرت عنه خطّة المساعدات، وهو منظور يخلو من الموضوعية، ويكافئ الاحتلال الإسرائيلي، ويسلب الرازحين تحت الاحتلال من أبسط حقوقهم الأساسية. ولمزيد من الإيضاح، فإن خطّة المساعدات تتماشى مع سعي الاحتلال إلى السيطرة على ثلاثة أرباع القطاع، وحشر السكّان في الربع المتبقّي في الجنوب، ما يعني ضغوطاً وحشية إضافية لدفع الناس إلى مغادرة القطاع، وإلى أين؟… باتجاه مصر المجاورة. وقد لوحظ في هذه الأثناء أن المَشاهد والفيديوهات المفزعة لتنفيذ خطّة المساعدات لم تلقَ ردّات فعل عربية تُذكَر (حتى تاريخه)، رغم ما تحمله الخطّة من مؤشّرات بالغة السوء وتمُسّ بالمصالح العربية، إذ إنها تزيد في تشديد الخناق على الغزّيين لتهجيرهم. ومن المثير للاستغراب الشديد أن تنفيذ هذا البرنامج المريب قد أتى بعد وقت قصير من عودة ترامب من جولته في منطقة الخليج، فقد كانت التوقّعات “المنطقية” أن تعمد إدارة ترامب إلى القيام بإجراءات تضع حدّاً للمخاطر الدائمة التي يتعرّض لها الغزّيون، فإذا بخطّة المساعدات هذه تزيد من حجم المخاطر، ولا توقف مسلسل جرائم القتل ضدّ المدنيين في الخيام وفي مراكز الإيواء.

يحدو المرء بعض الأمل بأن تكون الدول العربية المعنية قد نقلت إلى واشنطن مواقفها عبر القنوات الدبلوماسية، وبعيداً من الأضواء، تجاه الخطّة الكارثية للمساعدات المزعومة، التي تزيد الأمور سوءاً في القطاع، وتضاعف حجم المعاناة الجماعية، خطّة تخدم المخططات الشريرة لنتنياهو (وفريقه الحكومي) فقط، وبما يشجّع هذا الشخص على مواصلة حربه ضدّ الحياة والأحياء في القطاع المنكوب، مديراً الظهر للعالم كلّه، وحتى لشرائح كبيرة من المجتمع السياسي الإسرائيلي، فضلاً عن عائلات الأسرى.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى