
تتقاسم توقعات السوريين نزعات الأمل والقلق في آن واحد حول التغيير في سورية الجديدة، وقد يكون من الصعب أن نقول: إنّ عملية التغيير تملك حلولاً سحريةً لكل مشاكل السوريين، ولكن من السهل الاستنتاج أنّ الطريق الأصوب للتعاطي المجدي مع التحديات المفروضة، حيث يقدم لنا إمكانية لإيجاد الحلول، خاصة إذا ساد الفهم المسؤول لمعانيه والإدراك الواعي لمتطلباته ونقاط القوة والضعف فيه.
إنّ التغيير أضحى حاجة موضوعية في سورية، إذ تؤكد كل المعطيات المتوفرة الحاجة الماسة إلى الإصلاح الشامل، إذ تشير المعطيات المتوفرة أنّ ما يقرب من 90 % من المواطنين السوريين يعيشون في حدود خط الفقر، كما أنّ أغلب المؤسسات السورية، الموروثة من النظام البائد، تعاني من الترهل والتسيّب والركود.
إذ ورثت سورية تركة ثقيلة: دولة متأخرة، ونفوذ جماعات تتسلط على مصالح البلاد والعباد، وحزب ومنظمات شعبية وأحزاب مشاركة مترهلة تبحث قياداتها عن مصالحها الذاتية، وإدارة اقتصادية غير حكيمة في إدارة الموارد الاقتصادية والبشرية بشكل عقلاني لإنتاج عناصر تطوير وتعظيم لها، وسجل حافل بانتهاكات حقوق الإنسان.
مما يفرض على قيادة المرحلة الانتقالية تجاوز العصبية الأيديولوجية، من أجل إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة، إذ لم يعد – في عالم اليوم – ممكن البقاء بعيداً عن ثورة الحرية والكرامة للمواطن السوري.
وفي هذا السياق رتّب التاريخ السوري المعاصر على قوى الثقافة والعمل، خاصة من الشابات والشباب الذين يشكلون حوالي 70 % من الشعب، مسؤولية وطنية كبرى، تتناسب مع الدور الهام الذي تلعبه في الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية، وعليه فإنّ إعادة بناء دولة الحق والقانون سوف يقع على عاتق هذه القوى في الدرجة الأولى، فهي التي ستكون القاعدة الاجتماعية الأهم للتغيير المنشود.
ولاشكَّ أنّ تحوّل هذه القوى إلى كتلة مؤثرة مرهون بقدرتها على جذب أوسع القطاعات الاجتماعية التي تطمح إلى التغيير، كما أنه مرهون بقدرتها على تجديد الثقافة السياسية السورية من خلال اعتبار ساحة الفعل السياسي مفتوحة على الدوام على قوى ومجموعات ذات توجهات فكرية ومشارب سياسية متباينة، وضرورة التزام الخطاب العقلاني والواقعي في العمل السياسي، واعتماد ثقافة الحوار.
ومن جهة أخرى، فإنّ صياغة معادلة جديدة للحياة الداخلية تأخذ بعين الاعتبار تعاظم التحديات، في ظل علاقة بين السلطة والمجتمع قائمة على القناعة والثقة والتفاعل الحر، علاقة مقننة في إطار عقد اجتماعي جديد يوفر الشفافية والمؤسسية والقانون، هي وحدها الكفيلة بوضع سورية على أولى درجات التغيير المنشود، وإلا فإننا أمام حالة إعادة إنتاج الماضي بكل مآسيه، خاصة إذا بقيت عقلية ” من يحرّر يقرّر ” موجهة لمجمل توجهات المرحلة الانتقالية.
إذ يكفي سورية ما عانته، طوال 54 عاماً من سلطة آل الأسد، حيث هيمنت الدولة الأمنية على مجمل نواحي الحياة السورية، بحيث تم ابتلاع كل المظاهر الأولية لوجود المجتمع المدني السوري. بل أنّ المجتمع السياسي نفسه لم ينجُ من سيطرة الأجهزة الأمنية، حيث ” قُضمت ” الدولة وأُرغمت على إخلاء الساحة لهذه الأجهزة. ومن هنا يبقى القول: إنّ مصير أي مشروع للتغيير، من قبل السلطة الانتقالية، مرتبط بـ ” أزمة التطبيق “، إذ إنّ كل القوانين والإجراءات والتدابير التحررية تواجه المقاومة والتأجيل والإعاقة عند التنفيذ، أو تنفّذ على نحو بيروقراطي وبطيء وخالٍ من حيوية التغيير، لا بل يترافق تنفيذها أحياناً مع نية إبطال مفعولها من قبل قوى الأمر الواقع الحليفة لقيادة المرحلة الانتقالية، إذ ثمة أمثلة عديدة على دور الانتهازيين والمنافقين والمتملقين في تخريب تجارب بدأت مفعمة بأمل التغيير، فجرفها هؤلاء نحو عكس رهاناتها.
وعليه، فإنّ توافقاً بين هذه القيادة والتيارات السياسية والمجتمعية قد يساهم بتطوير آليات التغيير المجدية، خاصة إذا تم التوافق على تشكيل مجلس للوفاق والإنقاذ يضم ممثلين عن كل المكوّنات الفكرية والسياسية للشعب السوري، بما يساعد على توسيع رقعة الحريات العامة، وتحريك وعي الجماهير، ودفع شرائح واسعة منها إلى الانغماس في خضم العمل السياسي العام. ومما يحيل أفراد المجتمع السوري من مجرد رعايا تابعين، غير مبالين، إلى مواطنين نشطاء فاعلين يمكنهم التأثير في ديناميات اتخاذ القرار السياسي والإسهام في تغيير بنية التمثيل السياسي، فضلاً عن مشاركتهم في تحديد الأهداف الكبرى، وصياغة السياسات العامة.
ومما لا شكَّ فيه أنّ تجسيد مثل هذا الوفاق، بأهدافه وموضوعاته، منوط بقيادة المرحلة الانتقالية أولاً، ويعكس مدى جديتها في التحوّل الديمقراطي. إذ من المفترض أن تبادر إلى الدعوة الشاملة إلى الحوار الوطني المفتوح والمجدي والعملي مع القوى السياسية والمدنية والثقافية الأساسية، مما يرفع من شأنها في أعين المجتمع، ويفتح في المجال لتجسيد قيم التغيير وحاجاته في الواقع.
وفي كل الأحوال، يجدر بالمعارضة السورية بكل أطيافها، أن تبحث عن أشكال متطورة للحضور الشعبي الكثيف، خاصة من الشباب والنساء، في فعالياتها السلمية، كي تضمن استكمال عملية التحوّل المطلوب. بعد أن أصبح إنجازه، في كافة البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ضرورة للتمكن من التعاطي المجدي مع تحولات العالم المعاصر طبقاً للمصالح الوطنية السورية العليا. ولعلَّ برنامجاً تشاركياً شاملاً يساعد على الخروج من خيارات الماضي، الذي يفتقد حرارة التواصل مع الحاضر والمستقبل، إلى خيارات المستقبل التي تفتح الأفق أمام انطلاق مبادرات كل مكوّنات الشعب السوري.
ولا شكَّ أنّ نجاح أي مشروع للتغيير مرتبط بإجراء إصلاح سياسي شامل، مقدماته الضرورية تقوم على إلغاء كل القيود على الحريات الفردية والعامة، وتقوم أيضاً على الدعوة إلى استقلال القضاء وسيادة القانون، إضافة إلى كل أسس النظام الديمقراطي، بما يضمن قيام دولة حق وقانون قوية وعادلة.
وهكذا، تبدو سورية في أمس الحاجة لأن تتضافر جهود جميع أبنائها للتعاطي المجدي مع التحديات المطروحة على شعبها، لذلك فإنّ المطلوب هو التحوّل السلمي المتدرج من الدولة التسلطية إلى الدولة الديمقراطية، بما يوفر الوحدة الوطنية وإعادة الاعتبار لدولة الحق والقانون المتصالحة مع مجتمعها. ومن أجل ذلك لابدَّ من سن قانون عصري لتأسيس الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، واستكمال الملف الأمني من خلال هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية لضمان السلم الأهلي والعيش المشترك، وفتح ملف المفقودين.
إنّ سورية الجديدة أمام تحديات حقيقية تستوجب تفعيل الخيارات الممكنة، من خلال إرادة سياسية صلبة، وإدارة عقلانية لكل الإمكانيات المتوفرة، بهدف التعامل مع الوقائع القائمة كما هي لا كما تتخيلها رؤى مبسطة. فليس من الواقعية والعقلانية أن نغمض أعيننا عن مختلف الخيارات والقدرات التي يمتلكها الشعب السوري بكل مكوّناته، وذلك من خلال إعادة صياغة كل أسس قوته، بترتيب أوضاعه الوطنية، وإعادة ترتيب العلاقات مع العالم والموازين الإقليمية والدولية.