التعافي من تركة الآثام

محمد برو

على مدى أربع وخمسين سنة حكم الأسد الأب والابن سوريا بقبضة حديدية، وممارسة أمنية أشبه ما تكون بالكلاب المسعورة، في تتبع أدق الزوايا في الحياة السورية وتهشيمها، وإعادة صياغتها على نحو يخدم الاستبداد والحاكم الفرد. لم تستثن هذه الملاحقات الستالينية أي منحى من مناحي الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، وبدأت في تشكيل الأشواه التي تخدم سلطتها منذ سني الطفولة الأولى، مرورا بسنوات الشبيبة واتحادات الطلبة وهلم جرى، وجعلت الفساد والمنظومة المبررة له أو المشرعنة له جزء من الثقافة اليومية للعامة والخاصة، كما أنتجت لغة ومفردات ما أن تسمعها حتى تعلم أنك تكرر سماع ما سمعته آلاف المرات، دون أن يكون له أي معنى أو دلالة سوى استغباء السامعين ودفعهم لطأطأت الرؤوس ورفع الأيدي بالقبول، علاوة على كل ما سلف جرى تدمير للقيم الاجتماعية التي تشكل في لحظات الضعف سندا وداعما، تسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي وتحول دون الانهيار الكارثي السريع، كما حدث في المجتمع السوري بكافة طبقاته وشرائحه، وبات التفسخ الاجتماعي وانهيار منظومة الأسرة وفقد الثقة والأمان العامين، السمة الظاهرة في هذا المجتمع المدمر، الذي فتكت به الفاقة والعوز أشد الفتك.

واليوم وبعد سقوط هذا النظام ورحيل رموزه الكبيرة، تسرب الوهم إلى بعضنا أننا أنهينا بكفاح مرير حقبة سوداء من تاريخ سوريا، وأننا في تشوف كبير لبناء سوريا جديدة مختلفة بالكلية عن سوريا الضحية، غافلين أو متغافلين أن تلك النبتة الخبيثة التي زرعها نظام الأسدين، أنتجت بذورا وأبواغا وطبعت نفوسا، وكرست أنماطا من الممارسات ربما نحتاج لعقود كي نكون متعافين من عقابيلها، فخلال مئات الحوارات والمتابعات تجدنا ما أن تعترضنا عقدة أو عقبة، حتى يسارع مخزوننا الأسدي المتراكم عبر ما ينوف عن خمسين سنة، ليقترح الأنماط المخزونة من تلك الحلول التي سادت في تلك الأيام المنصرمة ( توسط لدى مسؤول دفع مبالغ تفتح الأقفال، اللجوء إلى احتيال قانوني يمرر الممنوع، التهديد بالقوة وممارسة العنف) حتى في انتقاد الفوضويين أو المعارضين الذين يهددون استقرار البلاد اليوم، تتكرر ذات العبارات التي كانت سائدة خلال العقود السابقة، في تجريمهم ووسمهم بالخيانة والعمالة وما لا يحصى من أدوات القتل والإقصاء اللفظي.

في فترة حكم الأسدين عمل النظام ونجح، في تكريس انقسامات طائفية ما تزال إلى هذه الساعة من أقوى محرضات النزاع وتأجيجه واحالة الكثير من الأزمات إليه، سيما أن بعضها مثقل بحمولات ثأرية لانتهاكات وجرائم ارتكبت على مدى عشرات السنين، وارتفعت وتيرتها بمذابح ومجازر شنيعة خلال العقدين الأخيرين، وهذا يدخل البلاد فيما يسمى بالحلقة المعيبة التي يدور السالك أو الغارق فيها دون القدرة على التوقف أو التقاط نقطة البداية والنهاية، ولا بد هنا من اجتراح فعل استثنائي يتجاوز منطق الحق والعدالة ويرتفع عنهما، لإيقاف دوامات الكراهية والعنف والتخندق الضيق، ولن ترضي هذه الحلول الاستثنائية الشطر الأكبر من المتضررين، لكن لا بد من التضحيات في طريق الصعود من الهاوية، ولن يجري الانتقال من بيئة الشحن الطائفي واستدعاء حوادثها السابقة، وما تستلزمه من مشاعر عدوانية تثوي تحت جلود الكثيرين منا، بمجرد التنديد بها أو إدانتها.

هناك طريق طويل وشاق سلكته أمم قبلنا حتى ترسخت لديها معايير المواطنة والاحتكام إلى القانون الذي يساوي بين الجميع، صحيح أن هذا الحلم لم ينجز على نحو تام لا في الشرق ولا في الغرب، لكن شعوبا واسعة باتت اليوم تعيش الشطر الأكبر من هذا الإنجاز، يتطلب هذا التحول العميق والطويل إرادة عنيدة من السلطات الحاكمة والاتجاهات الثقافية والمؤسسات التربوية والإعلامية، ونحن نشهد اليوم مدى قوة التأثير التي تمتلكها الدراما وسائر الأدوات الفنية في خلق اتجاهات ثقافية تلهب الشباب وتدفعهم للتماهي بها.

هكذا تنتصب أمانا اليوم أصنام لثلاثي الشر، “التخندق الطائفي أو الإثني، الفساد الذي أصبح جزء من منطق وطبيعة الأشياء، شبح الانتقام لمئات آلاف الضحايا الذين ينتظرون العدالة الغائبة وربما تكون المستحيلة” في لحظة تحاول فيها سوريا الجديدة ان تنهض من مستنقعات تركة الآثام التي يصعب حصرها أو النجاة من دماملها المتقيحة، هذا ونحن نضرب في حديثنا صفحا عن التركة الكارثية للآثار الاقتصادية التي سيدفع سائر السوريين ثمنها عقودا في ترميمها والخلاص من تبعاتها.

وإذا أوغلنا قليلا سنجد صحارى سوداء من الآثار النفسية المدمرة، التي يكاد ينجو منها النذر اليسير، والتي ستطبع أرواحهم لسنوات طويلة، فقد شكل النزوح المستمر والتهجير والاعتقال ودوامات العنف شعورا جمعيا عميقا بالخوف والرعب المهيمن، حتى على عالم أحلامنا، وتضاعفت حدة الاكتئاب عند الشريحة الأوسع، وبات نمط اللامنتمي الهروبي والانعزالي والظواهر الانسحابية سمة مألوفة ومفهومة عند الكثيرين، وأصبح القلق والسوداوية والاغتراب الاجتماعي وفقدان الأمل، سمة مشتركة وسائدة.

عملت راوندا وجنوب إفريقيا ودولة المغرب على آليات مستحدثة، للتعافي من الآثار الاجتماعية والنفسية لدى مجتمع أنهكته الحروب والأزمات وحكم الفرد المستبد، من خلال لجان الحقيقة والمصالحة ومن خلال منصات للضحايا والشهود ولجان الاعتراف بالحقيقة وطلب الصفح والمسامحة، أيضا محاكم مجتمعية “غوتشا” في راوندا، وهناك بلدان أخرى اجترحت حلولا أو مسارات خففت من جراحات الماضي، وتركت الباب مفتوحا أمام فرصة مجتمعية واسعة للنجاة من عبئ الجرائم وعبئ الاقتصاص من المجرمين، وقدمت في تلك التجارب نماذج ناجحة في تغليب المصلحة العامة على الحق الشخصي، لكن هذا لم يحدث عنوة أو جبرا بل جرت حوارات وتواطأت اتجاهات وقوى وطنية ومثقفون وقادة رأي، على جعلها أقل الحلول ضررا على مستقبل البلاد وأهلها.

ولليونان وإسبانيا تجارب مختلفة وناجحة في التعافي من آثار الحكم العسكري والملكية، ولن يكون بإمكان السوريين تقليد أي نموذج من هذه النماذج الآنفة، بل إن النماذج الآنفة الذكر لم تكن تقليدا لنماذج وتجارب سبقتها، بل هي ابتداع صرف تمليه طبيعة الأزمة وطبيعة السكان الخاصة والظرف الزمني ومحصلات القوى اللاعبة في هذه الساحة، واستعداد الناس وقابليتهم للانسجام مع هذه الحلول، وهكذا سيكون الأمر لدى السوريين، ستكون هناك حلول تنبعث من رحم الواقع وخصوصية الأزمات، تلبي الاتجاه العام والمطلوب للخروج من مستنقع الدوامات، وتكسر مساراتها الصعبة. ستكون الشجاعة المفرطة باقتراح الحلول بمواجهة المنطق السائد للعدالة وحقوق الضحايا، سيكون هناك خلاف وربما صراع طويل لترجيح أحدهما على الآخر، وستكون الحلول جميعها منقوصة ومعتلة ومفرطة بحقوق جانب من المصلحة لتحقيق جوانب أخرى، ولا مناص من البدء واتخاذ القرارات الشجاعة والعمل على خلق ثقافة قبول وتفهم لها، وإلا سنجتر آلامنا وحقوقنا المؤجلة وسنبقى في صراع طويل بين أحقية الأمن والسلام أو أحقية إنفاذ العدالة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى