
دعا حزب فرنسا الأبية، قبل بضعة أيّام، إلى تجمّع شعبي وحزبي ونقابي للاحتجاج وبناء جبهة مقاومة ضدّ الإجراءات القانونية التي بدأها وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو، نهاية الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، لحلّ جمعية إيرغونس فلسطين، بحجّة “ضرب الإسلاميين” وعدم “تشويه الإيمان”، مدّعياً أن العديد من “مواطنينا المسلمين يعتنقون عقيدةً تتوافق مع قيم الجمهورية”. وفي سياق كلامه، قال: “يجب عدم تشويه القضية الفلسطينية لأنها قضية عادلة”، علماً أن الجمعية لم تستلم أيّ استدعاء، ولم يوجّه لها أيّ اتهام، بل أبلغت الداخليةُ مؤسّسَ الجمعية بأنها ستُحلّ خلال ثمانية أيّام. وحلّ الجمعية إجراء آخر في الحرب على الصوت الفلسطيني، بعد حلّ غالبية الجمعيات المناصرة لفلسطين، وشيطنة الشخصيات من أصول عربية وكلّ خطاب يدعم القضية الفلسطينية. اليوم، لا يتوانى الوزير الفرنسي عن أتّباع أسلوب مجرم الحرب بنيامين نتنياهو المُلاحَق من المحكمة الجنائية الدولية، الذي يُلصق تهم دعم حركة حماس أو معاداة السامية بكلّ من يتجرّأ على إدانة جيشه وحكومته اليمينية الإرهابية، فينتصر للشعب الفلسطيني، بدل احترامه قيم “الجمهورية”، التي يتهم الوزير الفرنسي الآخرين بعدم احترامها.
إجراءات وزارة الداخلية الفرنسية لحلّ جمعية إيرغونس فلسطين تتناقض مع موقف ماكرون وتصريحاته حول غزّة
تضم “إيرغونس فلسطين” (أسّست بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 للدفاع عن فلسطين)، التي بدأت إجراءات حلّها، فلسطينيين وعرباً وفرنسيين، مسلمين ومسيحيين وملحدين. هؤلاء لا يشوّهون القضية كما يدّعي الوزير، بل بالعكس، هم من يقفون منذ عام ونصف عام للدفاع عن عدالتها، يدافعون عن فلسطين وشعبها ضدّ المجازر والإبادة، يدافعون بطرق سلمية وقانونية عن قضية حقّ وعدالة وقرارات أممية ينصّ عليها القانون الدولي. إضافة الى ذلك، فإن من يعمل مع هذه الجمعية يعمل فعلياً بقيم الجمهورية، التي تنصّ في مبادئها على احترام حقوق الإنسان وحرّية التعبير التي تدوسها اليوم بعض الأحزاب والشخصيات السياسية، مع سبق الإصرار والترصّد، في حملة شعواء غير آبهة بمعنى وقيم هذا البلد، لأسباب عنصرية وإسلاموفوبية وانتخابية.
خطاب وزير الداخلية مزدوج، كما أن الإجراءات المجحفة والتجريمية، التي اتخذها بحقّ الجمعية، تتناقض مع موقف الرئيس إيمانويل ماكرون وتصريحاته أخيراً حول غزّة وخطط التهجير القسري ومنع المساعدات الإنسانية عن سكّانها، وتأكيده ضرورة التمسّك بحلّ الدولتين. هل استمع وزير الداخلية لتصريحات ماكرون: “الوضع في قطاع غزّة هو الأشد خطورة، وعمليات التهجير القسري للفلسطينيين ردّة فعل غير مقبولة”، أو قوله: “لم يسبق قط أن ظلّ سكّان محرومين من الرعاية الطبية، ومن دون غذاء ودواء وماء، هذه المدّة كلّها”، أو دعوة ماكرون إلى ضرورة فتح المعابر وإدخال المساعدات الإنسانية؟ وهل وجد فيها الوزير تصريحات دعم للإرهاب، أو أنها معادية لقيم الجمهورية ومعادية للسامية؟ الجمعية الموجودة في الساحة الفرنسية، ومثلها المنظّمات الأممية، وغيرها من الجمعيات الداعمة الحقوقَ الفلسطينية، تردّد بالضبط ما قاله ماكرون متأخّراً. ألم تصوت فرنسا على قرارات الأمم المتحدة بشأن الحرب على غزّة؟ ألم تشارك في جلسات المحكمة الجنائية وتوافق على قرارات مذكّرات الاعتقال بحقّ مجرم الحرب بنيامين نتنياهو؟ أم أن الداخلية الفرنسية مستمرّة في رصد وتجريم وملاحقة كلّ من يدعم الشعب الفلسطيني، ويعبّر عن تضامنه مع غزّة، رغم تغيّر موقف الرئيس ماكرون؟
شهادات كثيرة تؤكّد ازدواجية الخطاب السياسي الفرنسي عن التضامن مع فلسطين، من باحثين وأساتذة ونواب ونقابيين وطلبة ومتظاهرين عاديين، كشفت حجم القمع الجماعي غير المسبوق في تاريخ فرنسا الذي تمارسه وزارتَي الداخلية والعدل، وتوسيع بعض مواد القانون لتمسّ حرّية التعبير والتضامن والتظاهر، وتشويه المناصرين وترهيبهم وردعهم بطرق بوليسية، لإسكات الأصوات، ومنع توسّع رقعة الدعم للشعب الفلسطيني في فرنسا.
شهادات كثيرة تؤكّد ازدواجية الخطاب السياسي الفرنسي عن التضامن مع فلسطين، كشفت حجم القمع الجماعي غير المسبوق في تاريخ فرنسا
في مؤتمر صحافي عقدته مجموعةٌ ممّن سبق أن استدعتهم الداخلية الفرنسية، تحدّثت النائبة ريما حسن عن نوع الأسئلة التي وجهت إليها من المحقّقين مثل استعمال كلمة الانتفاضة أو المقاومة، وماذا تقصد بهما، أجابتهم: “هل هناك حظر ومنع لاستعمال كلمات معينة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأرجو تزويدي بقائمة هذه الكلمات لأتجنّب استعمالها”. أمّا الباحثة والأستاذة في المجلس الوطني للبحوث والمتخصّصة في تاريخ فلسطين فيرونيك بونتمب، فاستدعيت على عجل من رئيسة المجلس التي أحالتها إلى لجنة تأديبية بعد تداولها بياناً يخصّ أحداث “7 أكتوبر”، فيضعها في سياق الاحتلال والاستعمار، وليس كما يروّجها الإعلام الفرنسي حادثاً إرهابياً منفصلاً عن سياق تاريخ ما حدث في فلسطين.
قبل أيّام، حوكم الباحث والأكاديمي المتخصّص بالعالمين العربي والإسلامي فرانسوا بورغا بتهمة تمجيد الإرهاب، وطالب المدّعي العام بحبسه ثمانية أشهر في جلسة وصفت بأنها مناوئة (ومحتقنة) للفلسطينيين وللمتضامنين مع الشعب الفلسطيني، وفي حضور مجموعة محامين فرنسيين من اللوبي الصهيوني، يعملون لمصلحة دولة الاحتلال وليس لمصلحة فرنسا، أدّوا مرافعةً متعصّبةً ومتطرّفةً، ربما لا تحدث حتى في محاكم الكيان الصهيوني نفسه. تقول المحامية إليزا مارسيل التي تدافع عن المتّهمين الداعمين غزّةَ في باريس: “تحرّك وزير العدل في اليوم التالي للسابع من أكتوبر، وأرسل لجميع القضاة أمراً يقضي بتوقيف كلّ من يدعم ويتعاطف مع المقاومة في غزّة، وفي إثر ذلك، اعتُقل مئات الأشخاص بهذه التهمة التي تنتهك حقّ الإنسان في التعبير… ووُجّهت تهم لنواب حزب فرنسا الأبية، الذين نشروا حالاً بياناً معتدلاً فرنسياً وقانونياً يدين ما سمّوه الإرهاب، ويدعمون فيه حقّ الشعب الفلسطيني. لقد وصلت تجاوزات البوليس الفرنسي القمعية إلى الأمم المتحدة التي أدانت لجنة حقوق الإنسان فيها ما يقوم به البوليس الفرنسي من انتهاكات لحقوق الإنسان وقمع لحرّية التعبير. وبالتفصيل والتوثيق، تضمّن تقرير لمنظمّة العفو الدولية حالات هذه الخروق لحقوق الإنسان ولحرية التعبير، وكذلك صدرت الإدانات من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان”.
ورغم الموقف الجديد للرئاسة الفرنسية، وقول الرئيس ماكرون إن ما تقوم به حكومة نتنياهو غير مقبول، وما يقوم به نتنياهو عار، استثمرت الحكومة الفرنسية النشاطات المستمرّة والتظاهرات الداعمة فلسطين لتقدّم مشروع قانون سبق رفضه والاستهزاء به من نُخب فرنسا قبل سنوات، اقترحه الرئيس ماكرون بطلب من مجلس المؤسّسات اليهودية، وهو تجريم معاداة الصهيونية، واعتبار معاداتها معاداةً للسامية، إذ تبنّت الجمعية الوطنية أخيراً هذا القرار لتقوية مكافحة معاداة السامية في التعليم العالي، وهو قرار يحمل في طيّاته انزلاقاً مقلقاً لكثير من الباحثين والأكاديميين والمتخصّصين في القانون الدولي، من شأنه تجريمهم لموقفهم العلمي من الصهيونية.
وظّف وزير الداخلية الفرنسي في أثناء تصريحه عن حلّ الجمعية المناخ اليميني السائد
كما وظّف وزير الداخلية، بمناسبة تصريحه عن حلّ جمعية إيرغونس فلسطين، المناخ اليميني السائد حالياً، وألقى جملة “يسقط الحجاب”، مذّكراً بتعبير “كارشر” (ماكينة غسيل بالضغط العالي) الذي استخدمه نيكولا ساركوزي ضدّ المهاجرين خلال حملته الانتخابية، ليصعد نجمه في الاستطلاعات بعد ذلك، وينتخب رئيساً للجمهورية، وهو ما يطمح إليه اليوم برونو ريتايو، الذي ينافس على رئاسة حزب الرئيس إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ويعمل لجذب أصوات اليمين واليمين المتطرّف الفاشي، الذي رغم ما يقوم به بعض أعضائه ضدّ يهود فرنسا، وضدّ المسلمين، من اعتداءات وتحرّش، آخرها موقفهم من حادثة طعن الشاب المالي أبو بكر سيسي (خمسين طعنة) وهو يؤدّي الصلاة، التي لم تُسمع لنائب منهم إدانة لها.
في وقتٍ لم يعد هناك أيّ شكّ عالمياً في وجود الإبادة في غزّة، أصبحت لوبيّات الكيان في أميركا وأوروبا وفرنسا بالذات هي من تقرّر إخفاء فلسطين، والصوت الفلسطيني، وتحتل أيَّ فضاء يمكن أن يشكّل تضامناً، بينما يبدو الزحف الحكومي واقعاً لإنهاء وجود ما تبقّى من جمعيات مناصرة وجاليات وأفراد يفتقدون الدعم والموقف الطبيعي من حكوماتهم القادرة بعلاقاتها، وبّما تملك من أوراق، على أن تكون مؤثّرةً وفاعلةً في دعم جالياتها، التي تدافع عن الحقّ الفلسطيني في الخارج، كما تفعل دولة الاحتلال مع جالياتها.
المصدر: العربي الجديد