
يمثل إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب رفع العقوبات المفروضة على سوريا تطورًا سياسيًا ذا دلالات استراتيجية، يُحتمل أن يعيد تشكيل أولويات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وخصوصًا تجاه دمشق. وتأتي هذه الخطوة في سياق سياسي جديد أفرزته مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق وتشكيل حكومة سورية جديدة، ما يجعلها محكومة باعتبارات التقييم والاختبار لا الإقرار النهائي.
ورغم أن القرار ما يزال في مراحله الأولية ولم يتحول بعد إلى سياسة تنفيذية واضحة، إلا أن صدوره يشير إلى بداية تحول محتمل في أدوات التعاطي الأميركي مع الملف السوري، ما يستوجب قراءة تحليلية استشرافية متزنة، تتفادى التسرع في استنتاج النتائج أو الانزلاق إلى التعميم.
يأتي هذا الإعلان في لحظة إقليمية معقدة، تتسم بإعادة تموضع القوى الفاعلة، وتصاعد المحاولات لاحتواء الأزمات الأمنية والاقتصادية المتداخلة. وهو ما يمنح القرار الأميركي أهمية مضاعفة ويجعله موضع اختبار مزدوج: أولًا، لمدى واقعية السياسة الأميركية الجديدة تجاه سوريا؛ وثانيًا، لمدى قدرة الحكومة السورية الجديدة على استثمار هذه اللحظة السياسية لبناء مسار اندماج فعّال في النظامين الإقليمي والدولي، ضمن مقاربات أكثر توازنًا ومصالح مشتركة.، من إعادة تموضع قوى إقليمية، إلى محاولات التخفيف من الأزمات الأمنية والاقتصادية، وهو ما يُضفي على القرار الأميركي أهمية مضاعفة، ويجعله أداة اختبار لمدى قدرة سوريا على إعادة الاندماج التدريجي في النظامين الإقليمي والدولي.
دلالات التحول في الشرعية السياسية السورية
يمكن فهم القرار الأميركي ضمنيًا كإشارة إلى قبول مشروط بالتعامل مع الحكومة السورية الجديدة بوصفها واقعًا سياسيًا قيد التقييم، وليس اعترافًا نهائيًا بشرعية متكاملة. فالتحول يطرح مؤشرات على تراجع في أدوات العزل القصوى مقابل فتح هامش اختبار سلوك سياسي مختلف من دمشق.
داخليًا، يُشكل القرار فرصة للحكومة الجديدة لإعادة بناء سرديتها السياسية في الداخل، من خلال استثمار الخطوة الأميركية كمؤشر على كسر تدريجي للعزلة، يعزز بدوره من قدرتها على إدارة تفاهمات داخلية، خاصة مع الأطراف التي كانت مهمّشة أو في موقع الخصومة مع النظام السابق. لكن لا تزال هذه الفرص مشروطة بسلوك السلطة الجديدة ومستوى تجاوبها مع المعايير الدولية.
تحريك الملفات المجمدة وإعادة ترتيب الأولويات السياسية
يفتح القرار، من حيث المبدأ، إمكانيات جديدة لتحريك ملفات أساسية كانت مجمدة، مثل ملف إعادة الإعمار، وعودة اللاجئين، والتفاهمات الأمنية مع دول الجوار. إلا أن هذا التحريك ما زال افتراضيًا ولم تُرصد بعد خطوات عملية باتجاهه.
ملف إعادة الإعمار، على سبيل المثال، بات محاطًا بنقاش أوروبي متزايد حول مشروطية التمويل، وضمان عدم إعادة إنتاج منظومات الفساد والاحتكار السابقة. وبالنسبة للاجئين، تعكس بعض التصريحات الأوروبية والإقليمية رغبة في الدفع نحو حل عملي، لكن التنفيذ يظل رهن توفر بيئة آمنة ومحفزات حقيقية للعودة، لم تتضح ملامحها حتى الآن.
أما على الصعيد الأمني، فسيساهم رفع العقوبات في تعزيز الاستقرار الداخلي، وسيمهد الطريق لفتح قنوات الحوار المباشر مع دمشق من قبل مختلف الأطراف، وسيفتح المجال أمام تنسيق أوسع حول مسائل ضبط الحدود والأمن، مثل التهريب، وإدارة المعابر، وقضايا المقاتلين الأجانب. لاسيما وأن الخطاب السياسي الرسمي في دمشق بدأ يعكس إدراكًا لمتطلبات المرحلة، ويُظهر استعدادًا أوليًا للانخراط الجاد في قضايا الأمن الإقليمي كفاعل نشط.
تشير الخطابات الصادرة عن الحكومة السورية إلى توجهات نحو قدر من المرونة السياسية، لا سيما فيما يتعلق بقضايا الأمن الإقليمي والتعاون الاقتصادي
ملامح الانفتاح الدبلوماسي السوري وإعادة الاندماج الإقليمي
من المرجح أن يُتيح قرار رفع العقوبات مساحة أوسع أمام دمشق لاستئناف نشاطها الدبلوماسي، خصوصًا في ظل التحولات التي طرأت مؤخرًا على مقاربات الإقليم تجاه سوريا. ومع ذلك، فإن أي تحرك سياسي فعّال نحو صياغة توافقات أمنية وسياسية جديدة على المستوى الإقليمي، سيبقى مشروطًا بنضوج التفاهمات الإقليمية والدولية، ومرتهنًا بمواقف دول عدة لا تزال تتعامل بحذر، وتشترط التزامات واضحة ومحددة من الجانب السوري تعكس تغييرًا ملموسًا في السلوك والسياسات.
تشير الخطابات الصادرة عن الحكومة السورية إلى توجهات نحو قدر من المرونة السياسية، لا سيما فيما يتعلق بقضايا الأمن الإقليمي والتعاون الاقتصادي، لكن لا تزال هذه المؤشرات بحاجة إلى ترجمة عملية لتثبت جديتها واستدامتها. نجاح هذا المسار يرتبط بقدرة دمشق على بناء ثقة مع الفاعلين الإقليميين من خلال تقديم سياسات واضحة، وتجنّب الأنماط التصعيدية التي عرقلت التفاهمات في السابق.
في سياق متصل، يُثار احتمال أن يُفضي الانفتاح الإقليمي إلى قنوات تواصل مباشرة مع إسرائيل، لاسيما وأن دمشق منخرطة في تواصل غير مباشر مع إسرائيل عبر طرف ثالث في إطار تهدئة الأوضاع المتأزمة في الجنوب السوري. وقد سبق قرار الرئيس ترمب مقابلة الرئيس السوري أحمد الشرع تصريحات تشير إلى إرسال دمشق رسائل واضحة برغبتها في التفاوض مع إسرائيل. كما أكد بيان صادر عن البيت الأبيض عقب اللقاء أن ترمب حث الشرع على الانخراط في اتفاقيات إبراهام مع إسرائيل.
ورغم أن موقف دمشق المستقبلي في هذا الملف لا يزال غير واضح، إلا أن خطابها السياسي يُظهر استعدادًا متزايدًا للانخراط في توازنات إقليمية جديدة، قد تعيد تعريف أدوارها ومجالات حركتها الدبلوماسية ضمن سياق متعدد الأقطاب وشديد التداخل، ما يعكس تحوّلًا في مقاربة سوريا التقليدية تجاه الصراع الإقليمي ومحدداته.
التفاعلات الإقليمية وتحولات ميزان التأثير في الشرق الأوسط
قد يؤدي القرار الأميركي إلى تحفيز تحولات نسبية في أدوار بعض القوى الإقليمية، لا سيما السعودية وتركيا، اللتين كان لهما دور في التمهيد السياسي لهذه الخطوة. يُفهم الحراك السعودي في هذا السياق كجزء من مشروع إعادة ترميم الدور العربي في سوريا، في حين يُقرأ الانفتاح التركي بوصفه محاولة للتخفيف من عبء التوتر الحدودي، وإعادة ترتيب العلاقة مع دمشق في ملفات الشمال.
إيران، من جهتها، تواجه ظرفًا إقليميًا ضاغطًا، نتيجة انشغالها بجبهات متعددة، خاصة في ظل التصعيد مع إسرائيل، وهو ما قد يضعف قدرتها على التصدي لتحولات المشهد السوري الجديدة. أما بالنسبة للعلاقة السورية–العربية، فمن المتوقع أن تكتسب بعدًا وظيفيًا جديدًا، يقوم على تبادل المصالح بدلاً من شروط العودة الرمزية.
ويُحتمل أيضًا أن يسهم هذا الانخراط السوري المستقبلي في تشكيل نواة محور عربي–تركي تنسيقي في قضايا الإقليم، لا سيما في مواجهة السياسات الإسرائيلية التوسعية، أو في احتواء بعض التوترات الهامشية في محيط سوريا المباشر.
المشهد الدولي الجديد وتوازنات النفوذ حول سوريا
على المستوى الدولي، يمثل القرار الأميركي أداة لإعادة تدوير موقع واشنطن في الملف السوري. ويمنح واشنطن قدرة على إعادة تحديد دورها كمنسق وضابط للإيقاع لا كطرف متدخل بشكل مباشر، مستفيدة من اللحظة السياسية التي صنعتها حكومة دمشق الجديدة.
مع إعلان واشنطن نيتها رفع العقوبات، يُحتمل أن تتجه دمشق تدريجيًا نحو تنويع شراكاتها الخارجية بما يقلل من حالة الاعتمادية المفرطة على موسكو
قد تنتقل الشراكات السورية – الأوروبية إلى مستوى متقدم، لاسيما وأن الموقف الأمريكي سيفتح المجال أمام الاتحاد الأوروبي لفتح مسارات تسوية ملف اللاجئين والأمن الداخلي، بشرط وجود ضمانات قانونية ومؤسسية من قبل سورية. وستشكل ملفات إعادة الإعمار وإرساء الاستقرار في سورية مداخل رئيسية في تعزيز شراكة مستدامة.
أما روسيا، فقد فقدت فعليًا جزءًا من نفوذها العسكري والسياسي في سوريا عقب سقوط نظام الأسد، ومع إعلان واشنطن نيتها رفع العقوبات، يُحتمل أن تتجه دمشق تدريجيًا نحو تنويع شراكاتها الخارجية بما يقلل من حالة الاعتمادية المفرطة على موسكو التي رسخها النظام السابق. وإذا ما تبلورت مبادرات عربية بقيادة خليجية نحو تكوين تكتل إقليمي أكثر صلابة، مدعوم بتفاهمات غربية وأميركية، فإن الخيارات المتاحة أمام سوريا قد تميل نحو انفتاح أوسع على شركاء جدد، خاصة في المسارات الاقتصادية والدبلوماسية، ما قد يُعيد رسم شكل العلاقة مع روسيا من علاقة تبعية إلى علاقة مصلحية مرنة.
في المقابل، تُبقي الصين مقاربتها في إطار اقتصادي غير سياسي، مكتفية بمراقبة تطورات الملف واستثمار أي استقرار قادم في مشاريع البنى التحتية.
وإذا ما استمر التفاعل العربي–الغربي مع دمشق، فإن من المحتمل أن تتجه سوريا نحو أداء دور وظيفي مرن في شبكة إقليمية أوسع تتقاطع فيها المصالح الأوروبية والآسيوية. هذا الدور، وإن لم يرتقِ إلى مستوى مركز ثقل مستقل، قد يمنح سوريا موقعًا انتقاليًا في معادلة النفوذ المتعدد، خاصة إذا استثمرت دمشق في استقرار نسبي وتجاوب سياسي مع شروط الانفتاح. ومع استمرار إعادة التوازن في علاقة سوريا بروسيا، والتوسع المحتمل في الشراكات مع الخليج وأوروبا، قد تصبح دمشق نقطة ربط استراتيجية لا تُبنى على ثقل القوة، بل على مرونة التموضع بين المحاور.
ختاماً، في ضوء تحليل المعطيات الراهنة، لا يزال من المبكر إصدار حكم نهائي حول مآلات القرار الأميركي برفع العقوبات عن سوريا، إذ لم يتحوّل حتى الآن إلى خطوات تنفيذية واضحة أو إطار مؤسساتي مستقر. ومع ذلك، فإن القرار يُمثّل نقطة انطلاق محتملة نحو مسار جديد قد يُعيد تشكيل موقع سوريا في الخارطة السياسية الإقليمية والدولية، شريطة أن يُدار هذا المسار بواقعية سياسية وانفتاح استراتيجي.
يفتح هذا التطور الباب أمام جملة من السيناريوهات المتشابكة التي ترتبط بتوجهات الحكومة السورية وسلوكها الداخلي والخارجي، وقدرتها على ترجمة المؤشرات الإيجابية إلى التزامات عملية. كما تعتمد هذه التحولات على توازن التفاعلات العربية والدولية، وفعالية الشراكات التي يجري بناؤها أو إعادة صياغتها في ظل التغيرات الجيوسياسية القائمة.
لا تنفصل هذه اللحظة عن سياق دولي أوسع، يشهد تحولات في تموضع القوى الكبرى، وتغيّر في طبيعة الأدوات المستخدمة في إدارة الأزمات، ما يجعل سوريا اليوم أمام فرصة لإعادة تعريف دورها، ليس بوصفها ساحة للصراع، بل كفاعل قادر على ضبط التوازنات والمشاركة في إنتاج الحلول، إن أحسنت إدارة مواردها السياسية والدبلوماسية.
في المحصلة، لا يمكن التعامل مع رفع العقوبات كغاية بذاته، بل يجب النظر إليه كمقدّمة لإعادة تشكيل العلاقة بين سوريا والعالم، وفق شروط متبادلة وتوازنات دقيقة. ولعلّ نجاح هذا المسار رهنٌ بإرادة التغيير داخليًا، والتزام الشركاء الخارجيين بمنطق الشراكة لا الإملاء، ما يحدد ما إذا كانت هذه اللحظة ستتطور إلى تحول مستدام، أم ستُطوى كفرصة عابرة في سجل التجاذبات الإقليمية والدولية.
المصدر: تلفزيون سوريا