في النهاية السويداء ستعرف طريقها

معقل زهور عدي

في مطلع القرن العشرين استطاع الأمير شكيب أرسلان إقامة توازن بين عصبية درزية وسياسة عروبية – اسلامية منفتحة , كانت العصبية الدرزية القاعدة الاجتماعية التي منحته حق تمثيل الدروز في لبنان وحوران لدى مجلس “المبعوثان” العثماني , أما ثقافته العربية والغربية العميقة فقد منحته القدرة على النظر بأفق أوسع مما تتيحه العصبية الدرزية , كما مكنته علاقاته المميزة مع القيادات العثمانية ( أنور وجمال وطلعت ) من فهم السياسة داخل العقل السياسي الذي تحكم بالدولة العثمانية في تلك المرحلة الانتقالية المضطربة.

سار كمال جنبلاط على نهج شكيب أرسلان مع تلك التعديلات التي أملتها الظروف السياسية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية فأنشأ توازنا مشابها مابين عصبية درزية ونزعة قومية عربية منفتحة استطاعت التأقلم مع السياسة اللبنانية المنقسمة باستمرار وفق خطوط طائفية وطبقية وايديولوجية .

وقبل ذلك كان سلطان باشا الأطرش قد ترك بصمته الوطنية السورية على جبل الدروز الذي أصبح ” جبل العرب ” لكن سلطان كان يفتقر للبعد الثقافي – النظري الذي تمتع به كل من شكيب أرسلان وكمال جنبلاط وبالتالي فقد بقي تراثه في الجبل كقائد وطني شعبي أعطى للعصبية الدرزية بعدا وطنيا سوريا حاول خلفاؤه بعده تحويله لبعد سوري – عروبي ( منصور الأطرش ) عاش بين الناصرية والبعث لكنه وصل لمأزقه التاريخي مع التيارين السابقين .

خلال الفترة التاريخية اللاحقة التي بدأت بانهيارالدولة العثمانية وانكفاء الأرسلانية التي كانت تعارض الثورة ضد الدولة العثمانية من وجهة نظر عقلانية لكنها انهزمت أمام تيار قومي عروبي صاعد تأثر بالثقافة الغربية في لبنان وسورية , ظهر دروز حوران كظهير لجيش الشمال العربي بقيادة الأمير فيصل بن الحسين وكانوا في مقدمة الفصائل العسكرية التي دخلت دمشق بعد انسحاب الجيش العثماني منها عام 1918 لكنهم لم يلبثوا أن انسحبوا إلى حوران تاركين دمشق للأمير فيصل حليف الدولة البريطانية .

لم تكن سياسة الانتداب الفرنسي الذي جاء في 1920 تضمر أي نزعة معادية للدروز , وعلى النقيض من ذلك فقد كان أحد شروط كليمنصو رئيس الوزراء الفرنسي في العام 1919 حين تفاوض مطولا مع الأمير فيصل حول معاهدة تتيح لفرنسا انتدابا مهذبا على سورية يبقي على الكيان السوري الناشىء والذي أصبح ” المملكة العربية السورية ” ضمن عباءة الانتداب بصورة مشابهة للحكم البريطاني لمصر آنذاك , أقول كان أحد الشروط الفرنسية في تلك المعاهدة التي لم تر النور هو ضمان فيصل لحكم ذاتي للدروز في حوران .

لكن سوء إدارة جبل الدروز من قبل الفرنسيين وعدم تفهمهم لحساسية الجبل ضد أي مظالم سلطوية أدى للاصطدام مع الانتداب الفرنسي بعد فترة قصيرة من الاتفاق الذي عقدته فرنسا مع وجهاء الدروز بعد احتلال غورو لدمشق عام 1920 .

وقد تطور ذلك الصدام حين تحالف سلطان باشا الأطرش مع الحركة الوطنية السورية في دمشق والذي انتهى إلى إعلان الثورة السورية الكبرى عام 1925.

تركت الثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش أثرها العميق على جبل الدروز , لكن ذلك الأثر الوطني كان يتعايش دائما مع العصبية الدرزية كما كان الحال عليه من قبل .

تسببت الدولة الأسدية في إضعاف الوطنية السورية عبر فترة طويلة من استبداد وحشي أعاد تعريف الوطنية السورية بجعلها مطابقة للولاء لحافظ الأسد ثم لابنه بشار تماما كما يقول حال الأسدين ” الدولة أنا ” فسورية أصبحت سورية الأسد ولم يعد لسورية وحدها وجود فعلي .

من أجل ذلك وجدت الوطنية السورية تفسها في مأزق حين انهار نظام الأسدين , وأصبحت الحاجة ماسة لاستعادة تعريف الوطنية السورية على نسق آخر . نسق لابد أن يكون قد تأثر بالمرحلة السابقة .

في أزمة الوطنية السورية وجد جبل العرب نفسه أمام عصبيته الدرزية التاريخية بدون عروبة – اسلامية كعروبة شكيب أرسلان , وبدون قومية عربية كقومية كمال جنبلاط , وبدون وطنية سورية كوطنية سلطان باشا الأطرش .

الجيل الجديد الذي نشأ ضمن نظام الأسدين كان قد تعرف على الوطنية الأسدية التي لاتعرف معنى لسورية وحدها بدون الأسد .

وهكذا بقليل من الجهد أمكن جذبه نحو العصبية الدرزية التي أصبحت وحدها في الميدان مقابل تيار ضعيف ومتردد من مثقفين وناشطين لايجمعهم جامع ولا يشكلون مركز استقطاب اجتماعي قادر على منافسة عصبية درزية راسخة تعرف كيف تمد خيوطها في كل اتجاه .

لكن أزمة تلك العصبية الدرزية أنها غير قادرة بمفردها على صنع مستقبل للجيل الجديد , لافكريا وثقافيا باعتبار انتمائها للماضي البعيد وارتباطها بموروث ديني مغلق في عصر لم يعد يقبل الانغلاق .

ولا بالأزمة التي تخلقها من خلال ضرورة تغذيتها المستمرة بتعصب يضع علاقات الجبل مع محيطه الحيوي في مأزق حقيقي .

أسوأ الحلول لمأزقها هو الاستدارة نحو الخارج وتدمير الروابط مع محيطها الحيوي الطبيعي .

لم يعد لدينا شكيب أرسلان المفكر والزعيم السياسي العروبي الاسلامي المتنور .

ولم يعد لدينا كمال جنبلاط الزعيم العروبي التقدمي .

كما أن تراث سلطان باشا الأطرش يتم دفنه بعيدا عن أعين الجيل الجديد .

لكن هناك ضوءا في آخر النفق وصوتا خافتا يقول : السويداء سوف تعرف طريقها في النهاية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى