
لا يخفى على أحد أن المرحلة الحالية في سوريا تتسم بعلوّ أصوات كثيرة وتقاطعها وتنازعها، حتى أن الأمر قد يتعدى ذلك إلى معاداة بعضها البعض الآخر، ومن الممكن القول أننا في خضم فوضى كبيرة من تعالي الأصوات المحقة في مكان والمتصيّدة في مكان آخر، مع غياب واضح للغة العقلانية والموضوعية التي من الممكن أن تنصف المرحلة والسوريين.
من الإنصاف اليوم أن نمتنع عن توصيف السوريين تبعاً لهوياتهم الما قبل وطنية من طائفة ومنطقة وعشيرة وما شابه، أو اعتبار ما يصدر عنا على أنه فعل أصيل يحدد هوياتنا وشخصياتنا، فالسوريون اليوم خارجون من سجن طويل ومظلم بما يجعلنا جميعاً نحتاج وقتاً طويلاً للتعافي.
الأمر الواضح تماماً في ظلّ هذه الفوضى هو عدم وجود ملامح واضحة للمرحلة السياسية في سوريا اليوم، مع وجود مؤشرات متضاربة وإن كان يغلب عليها وعود إيجابية تعطى للسوريين بتغير حال البلاد إلى الأفضل، لكن يرافقها تشكيك كبير من السوريين مرده إلى عدم وجود ثقة بين السلطة والشعب وبين مكونات الشعب بعضهم مع البعض الآخر، ولا يمكن أن يكون مسوّغ ذلك إلا ما زرعه النظام الأسدي من فرقة وجعلنا نحصد نتائجه الكارثية اليوم.
تتصف المرحلة السياسية السورية اليوم بجمود سياسي داخلي تقريباً، على الرغم من التجمعات السياسية والمنتديات التي أُسست أو عادت إلى عملها بعد سقوط النظام الأسدي، غير أن ذلك لم ينعكس حقيقة على الشارع وبقي في إطار نخبوي ولم يشكل لبنة أساسية للبناء عليها سياسياً.
ينكفئ كثير من السوريين عن العمل السياسي لأسباب مختلفة منها وجود أولويات تتعلق بأساسيات الحياة من مأكل ومشرب وتأمين حياة كريمة، بحيث يصبح الانخراط في العمل السياسي رفاهاً ليس في متناول اليد، أما بالنسبة لشريحة كبيرة من السوريين يرى البعض أن مستقبل القرار السياسي السوري مرهون بالتفاهمات الدولية والإقليمية التي لا يؤثر فيها العمل السياسي.
باختصار فإن الظروف المحيطة بالمشهد السياسي السوري اليوم تتشكل من عدة عوامل داخلية وخارجية متشابكة.
تبدو الحياة السياسية معطلة تماماً في سوريا، وسط مخاوف مشروعة وإن لم تكن واقعية من تغيير هوية البلاد وتغيير هواها السياسي والاجتماعي، غير أننا في المقابل لا نجد مشروعاً مضاداً يشكل حاملاً حقيقياً للبلاد في مواجهة مشروع السلطة الذي قد تعارضه شرائح مختلفة من السوريين.
وحتى نكون أكثر واقعية ومن أجل التعامل مع المعطيات السياسية بشكل أكثر عقلانية، فمن الضروري اليوم إذا كنت تعارض السلطة القائمة أن يكون لدينا مشروع بديل، وذلك يتحقق بأن تسعى التجمعات السورية إلى تنظيم نفسها والانخراط في العمل السياسي، ومحاولة الانتشار أفقياً وتقديم مشروع سياسي واضح والخروج من حالة التجاذبات الاجتماعية والسياسية، والعمل على البدء بتأسيس وعي شعبي سياسي واجتماعي ليكون حاملاً حقيقياً لأحلام السوريين.
إن تطلعات السوريين وطموحاتهم لا تنحصر بأن يكونوا جزءاً من السلطة، فمعظم السوريين يريدون تحقيق طموحاتهم التي خرجوا من أجلها سواء كانوا ضمن منظومة السلطة أو خارجها، وإن وجود اختلاف بالآراء هو دليل على حالة صحية، ولكن من الضروري أن تخرج تلك الآراء إلى العلن على هيئة مشاريع حقيقية يستطيع السوريين النظر إليها وتقييمها واختيار الانحياز إلى جانب المعارضة أو إلى جانب السلطة، بناء على وعي سياسي حقيقي لا على انحيازات قبلية غير واعية.
يبدو أن السوريين اليوم أمام استحقاقات ضرورية وأساسية على صعيد الحقوق والحريات على وجه الخصوص، وذلك يتطلب العمل على التمسك بمساحة الحرية الموجودة اليوم وعدم المساومة عليها بأي شكل من الأشكال، وإنهاء أي شكل من أشكال القمع من أجل تمهيد الطريق للتحرك ضمن مساحة حرية آمنة غير قابلة للمساس، وهو أمر غاية في الأهمية من أجل بناء الدولة التي سُرقت منا منذ عقود، ما يعني الدفاع عن الحق في التعبير والتجمع والتنظيم وحرية الإعلام والنشاط السياسي وتشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
لا تستقيم الحرية من دون عدالة، ويكون ذلك بتأسيس دولة قانون قادرة على أن تنظم العمل السياسي والمجتمعي وتمنع الشطط والتحريض والتخريب، والأهم من ذلك تحاسب مرتكبي الجرائم والانتهاكات من الأطراف كلها، فالمواطنون السوريون متساوون أمام القانون مهما اختلف جنسهم أو عرقهم أو طائفتهم والقانون لا يميز بينهم على تلك الأسس، وهذا يعني بالضرورة إصلاح النظام القضائي وتطبيق القانون على الجميع.
ومن نافل القول أن الحياة السياسية لا يمكن أن تستقيم من دون أن تسبقها بذلك الحياة الاقتصادية وتتحسن أوضاع السوريين المعيشية، فالفقر والجوع والبطالة باتت انتهاكًا صريحًا للحق في الحياة الكريمة،
وعلى أن هذه الاستحقاقات تمثل جوهر مطالب الشارع السوري منذ عام 2011 وحتى اليوم، لكنها لا تزال بعيدة عن التحقق بسبب ما يطبق على السوريين من عقوبات عالمية.
إن قابلية السوريين للانخراط في العمل السياسي اليوم تتفاوت حسب المنطقة، الانتماء، والظروف الأمنية، لكن يمكن القول إن كثيراً من السوريين، خاصة من الجيل الشاب، لديهم وعي سياسي كبير واهتمام بالشأن العام، لكنهم فقدوا الثقة بالمسارات السياسية القائمة، وهنا من الواضح أن على النخبة السورية من مثقفين وفنانين وكتاب أن يتولوا مهمة الأخذ بيد السوريين ممن يتخوفون الخوض في هذا المجال بغض النظر عن الرأي السياسي سواء كان مؤيداً للسلطة الجديدة أو معارضاً لها، على أن يكون ذلك ضمن عمل مؤسساتي واضح يحمل مشروعاً حقيقياً ينظم الحالة العامة السورية، كي يتمكن السوريون من الخروج من نفق الاستقطابات والولوج إلى حياة سياسية حقيقية بشكل مهني ومحترف.
وإذا كان على السوريين اليوم أن يناضلوا فإن مساحة الحقوق والحريات هي أهم ما يمكن أن يناضلوا من أجله، ولا يخضعوا فيها لبازار المساومات السياسية، فالاستثمار بالوعي الشعبي السياسي هو استثمار طويل الأمد لا تتحقق نتائجه على الفور، بل تحتاج وقتاً للكمون والتبلور لكنها تكون ذات حصانة لأنها مبنية على وعي حقيقي.
حتى الآن توجد مبادرات مدنية وسياسية صغيرة تنمو ببطء، مجموعات شبابية، حوارات محلية، أحزاب في المنفى، جهود لبناء مجالس محلية أو منتديات سياسية، فالسوريون يملكون الرغبة والقدرة للمشاركة السياسية، لكنهم بحاجة إلى مساحة آمنة وفرص واقعية للتأثير وأجسام سياسية جديرة بالثقة وبيئة قانونية تحترم حقوقهم، خاصة بعد سنوات من القمع السياسي وعدم قدرة الأجسام السياسية التي تأسست خلال الثورة على بناء قاعدة شعبية أو خلق فرص ثقة مع السوريين.
في الحقيقة إن نظام الأسد قد سقط ولكننا ما زلنا نعاني من تبعات الاعتقال الطويل الذي مارسه ونظامه الأمني على عقولنا وأرواحنا طوال عقود، وما زلنا بحاجة إلى فترة من التعافي لتنظيم أنفسنا وقوانا وتحديد مساراتنا السياسية والاجتماعية، لتشكيل مشروع وطني جامع، وشرعية فعلية على الأرض.
المصدر: تلفزيون سوريا