
يستمر الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإطلاق تصريحات مثيرة للجدل، وعلى الرغم من القدر العالي من الجدية التي عززت على مدار عقود قدرة واشنطن في العالم، إلا أن ترمب الآتي من خارج القواعد السياسية الأميركية افتتح للمرة الثانية طريقة تعاطي سياسية جديدة، وهو بات يندفع أكثر في الأسلوب الفج، عبر إطلاق مفاجآته الصادمة بنفسه، ومن دون اللجوء إلى البيانات الرسمية التي يرتبها في العادة مستشارو السياسة الأميركية.
والمفاجأة الآتية من خارج التوقعات، هي الإعلان عن وقف العمليات العسكرية في اليمن بعد هزيمة الحوثيين على حد قوله، وإعلانه عن مفاجأة مهمة على أعتاب زيارته المنتظرة للشرق الأوسط، وبدا ترمب وكأنه يربط بين الحرب مع الحوثيين في اليمن وبين الإعلان عن مفاجأته الجديدة، لكن من الواضح أن مفاجأته المنتظرة تتعلق بمفاوضاته النووية مع إيران، في ظل ما يوحي بإمكانية عقد صفقة في هذا الإطار.
ومع بدء العمليات العسكرية الأميركية ضد جماعة الحوثي في اليمن كانت قد أعلنت الإدارة الأميركية أن هذه العملية تحمل عدة أهداف مرتبطة بتدمير أي قدرة للحوثيين باستهداف السفن والملاحة البحرية، والهدف الأساسي هو إيران التي كانت تتمنع عن الدخول في مفاوضات مع واشنطن، لذا فمن الطبيعي الربط بين قرار واشنطن بوقف الهجمات الجوية وبين وصول المفاوضات مع إيران إلى مراحل متقدمة جداً.
والمؤشر الأهم على تقدم المفاوضات، هو إعلان مسقط عن قرار وقف الهجمات، وهي الدولة التي تستضيف المفاوضات الأميركية مع إيران، وكان لافتاً ما سربته الإدارة الأميركية عبر وسائل إعلام محلية عن لقاءات حصلت في سلطنة عمان بين المبعوث الخاص للرئيس الأميركي ستيف ويتكوف ووفد حوثي على هامش الجولات التفاوضية الأميركية ـ الإيرانية، وهو ما يناقض الأجواء التي أصر الطرف الإيراني على إعلانها دائماً بأن المفاوضات مع الأميركيين محصورة فقط بالملف النووي.
وليست مصادفة ما أعلنه نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس، بوجود تفاهمات لإعادة دمج إيران بالاقتصاد العالمي، بالتزامن مع أعلنته طهران سابقاً على لسان عدة مسؤولين عن انفتاحها على أي استثمارات أميركية وغربية في إيران، في قطاعات التجارة والملاحة والنقل والطيران، وبهذا الإطار يصبح المشهد أكثر وضوحاً في ملف المفاوضات النووية والنفوذ الإقليمي لإيران، والتي خسرت معظم استثمارها في عالم الميليشيات المسلحة.
لكن تبدو الأمور تحتاج إلى إنضاج أكبر يجري العمل عليه في الأروقة التفاوضية، وعلى الرغم من أن ترمب ألمح لترابط هذا الإعلان مع موعد زيارته المرتقبة للسعودية وقطر والامارات، لكن هنالك جانباً آخر على درجة كبيرة من الأهمية. فالإعلان حصل بعد القصف الإسرائيلي العنيف لمطار صنعاء، بعد استهداف الحوثيين لمطار بن غوريون بصاروخ إيراني الصنع، لكن الرد الإسرائيلي جاء عنيفاً وغير متكافئ مع ما حصل. لا بل أكثر، فإن نتنياهو أمر بتدمير بنى تحتية للحوثيين طالت المرفأ البحري والمطار ومعامل الكهرباء وليس فقط لمواقع عسكرية.
ووفق المراقبين والمتابعين، فإن الصاروخ الحوثي الذي أصاب مطار بن غوريون، كان رسالة إيرانية تحذيرية لنتنياهو المصر على ضرب ايران هروباً من أزماته الداخلية، وثانياً لدفع ترمب للمضي قدماً في توقيع الاتفاق مع إيران، وعدم إهدار الوقت بعد تأجيل الجولة التفاوضية، من هنا فإن رد نتنياهو كان يهدف إلى دفع الأمور إلى أقصى درجات التوتير، لعرقلة المفاوضات بين واشنطن وطهران. وهو تزامن مع قرار الكابينت الإسرائيلي بتوسيع العملية البرية في غزة والسعي لاحتلالها. وهنا يبرز الهدف في وضوح: عرقلة المفاوضات من خلال رفع مستوى التوترات الإقليمية.
والمثير للغرابة أن إعلان الحوثيين بوقف استهداف السفن لا يشمل السفن الإسرائيلية من دون اعتراض أميركي يوضح أكثر انزعاج أميركا من محاولات نتنياهو بالمشاغبة على المفاوضات، وليس مستبعداً ما يحكى عن عدم ممانعة أميركية من صد رغبات نتنياهو التخريبية، من هنا أيضاً استعجال ترمب في التمهيد عن إعلانه الكبير. فهو كمن يود إفهام نتنياهو بأن التشويش على ما يجري الاتفاق عليه أصبح بمنزلة التصويب على ترمب نفسه وليس على إيران.
وترمب الباحث عن إنجاز خارجي يعوض له عن الخسائر الداخلية التي مني بها في المئة يوم الأولى من ولايته، يضع آمالاً كبيرة على التعويض عن خسائره من خلال صفقة تحمل إنجازاً تاريخياً في الشرق الأوسط. على اعتبار أن الاتفاق المحتمل مع إيران لن يكون محصوراً بالبرنامج النووي الإيراني، بل يشمل السعودية من خلال منحها برنامجاً نووياً للأغراض السلمية، وترتيب تفاهمات أمنية وعسكرية تشكل ضماناً أميركياً فعلياً للخليج العربي.
والسعودية نفسها وضعت شرطاً أساسياً لموافقتها على التطبيع مع إسرائيل بالإعلان عن حل للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، وهنا تصبح دوافع نتنياهو حول إعلانه توسيع العمليات العسكرية في غزة ترتبط بعرقلة أي مسار يدفع القوى الإقليمية والدولية لإجبار إسرائيل على الموافقة على حل الدولتين، هو يريد ضرب المشروع، من خلال إعادة إطالة أمد الحرب، واستمرار ضرباته على لبنان وسوريا واليمن.
من هنا لا يمكن فصل الأحداث التي تجري في جنوبي سوريا مع المكون الدرزي، عما يحدث في المفاوضات الإقليمية والدولية، وخاصة أن هذا الصراع المفتوح، يحمل تأثيرات جغرافية استراتيجية على رغم من وجود لغة طائفية قد تسرع أي اشتعال محتمل للأحداث مستقبلاً، بالتوازي يسعى الرئيس السوري أحمد الشرع لإزالة العقوبات عن سوريا، قبل أن ينتقل التركيز الدولي إلى الشرق الأقصى، مع التوقع بانشغال القوى الدولية بالصراع المتفجر بين الهند وباكستان.
وعليه يمكن إدراج التصعيد الإسرائيلي المستمر على لبنان من خلال استمرار الخروقات والاغتيالات، بما يجري في سوريا، وتعي الحكومة اللبنانية أن ملف نزع السلاح قد يجري عقب التفاهمات، من هنا يمكن تفسير زيارة محمود عباس للبنان بعد مغادرة ترمب للمنطقة. لأن التفاهم بين القادة الخليجيين وترمب، سيؤدي لحل جذري لملف السلاح الفلسطيني في لبنان.
المصدر: تلفزيون سوريا