
تفتح حادثة توقيف الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، طلال ناجي، في دمشق بضع ساعات، وقبلها اعتقال عضوين في حركة الجهاد الإسلامي، الباب أمام سؤال مستقبل علاقة السلطة الراهنة في سورية بحركات المقاومة الفلسطينية والقضية عموماً، وعن المدى الذي ستصل إليه إجراءات السلطة الجديدة في دمشق في هذا الملف.
باتت العلاقة السورية الفلسطينية مرتبطة، إلى حد كبير، بالشروط الأميركية على إدارة الرئيس أحمد الشرع، الشروط التي على أساس تنفيذها سيجرى تقرير رفع العقوبات الأميركية، والتي باتت بدورها بمثابة المقرّر لمصير سورية في المرحلة المقبلة، وما إذا كانت تستطيع الإقلاع والنهوض، أو الهبوط إلى مرتبة الدولة الفاشلة التي لا تستطيع تأمين الخدمات الضرورية وتسيير مؤسساتها.
هذه هي المعادلة التي تواجهها إدارة الشرع، التي تحاول توسيع مساحات التفاهم مع الإدارة الأميركية بأكبر قدر ممكن، في مناخ متوتر وضاغط تواجهه هذه الإدارة في سياستها الداخلية، والتأثيرات التي يفرضها عليها الصراع الجيوسياسي المحتدم حول سورية الذي تتولاه أطراف إقليمية، وتحديداً إسرائيل وإيران، في إطار سعيها إلى إيجاد مساحات فراغ سلطوية يمكن من خلالها تنفيذ أجنداتها الإقليمية، في وضع سوري غير مستقرّ، وينطوي على قابلية كبيرة للتشرذم، بالاتكاء على عاملي ضعف المركز الدمشقي، والنهوض الهوياتي في الفسيفساء السورية المعقّدة المقيمة، في الغالب، على الأطراف التي تملك فضاءات تواصل مع العالم الخارجي.
أغلب الفصائل الفلسطينية الموجودة في سورية كانت منخرطة في إطار محور المقاومة الإيراني
وقياساً بالتعقيدات التي تواجهها إدارة الرئيس الشرع في الملفات الداخلية، بالنظر إلى صعوبة إيجاد حلول حاسمة وشاملة بشأنها، في ظل عمليةٍ تفاوضيةٍ معقدة بين دمشق والفاعلين الداخليين، القوميات والطوائف، يبرز موضوع الوجود الفلسطيني، بالإضافة الى الشروط الأخرى الواردة في القائمة الأميركية، من نوع محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتصنيف الحرس الثوري وحزب الله جهات إرهابية، شروطاً سهلة يمكن التركيز عليها وتسليط الضوء على ما تقوم به إدارة الشرع في مجال تكيفها مع الشروط الأميركية، في سياق محاولاتها التموضع ضمن خريطة الأنظمة السياسية الطبيعية وإثبات أنها فاعل دولتي مندمج باللحظة الدولية ومتفهم لمتطلباتها الأمنية والسياسية.
تكمن سهولة الأمر في أن أغلب الفصائل الفلسطينية الموجودة في سورية كانت منخرطة في إطار محور المقاومة الإيراني. وفي الأصل، صمّم نظام الأسد الوجود الفصائلي الفلسطيني في سورية ليكون أحد عناصر تثبيت هيمنته الداخلية والاحتفاظ بدور إقليمي مؤثر من خلال ربط نفسه بالقضية الفلسطينية، والتي، رغم كل المتغيرات التي طاولت البيئة الاستراتيجية الإقليمية والواقع الدولي، حافظت على مكانتها التأثيرية وقدرتها على توليد ديناميكيات جديدة تؤثر على الاستقرار في المنطقة، وهو ما كشفته مخرجات عملية طوفان الأقصى التي غيّرت الوضع الاستراتيجي للمنطقة على نحو كبير.
يبدو أن إدارة الشرع فضّلت التكيف مع مقتضيات المرحلة الإقليمية على مطابقة سياساتها بالقناعات والمبادئ التي تأسّست عليها
والواضح أن إدارة الشرع، في تعاملها مع الملف الفلسطيني، تحاول تصدير موقفها على أنه من أشكال التعامل مع مخلفات النفوذ الإيراني في سورية والمنطقة، وإعطاؤها هذا العنوان للملف يمنحها هامش حركة واسعاً في ما قد تقوم به من إجراءات لتنفيذ الشرط الأميركي، كما تجنبها تهمة التخلي عن الفلسطينيين وقضيتهم، في وقتٍ تبحث فيه الإدارة السورية الجديدة عن كل ما يفيد تثبيت شرعيتها في الداخل والخارج، وهنا يمكن للإدارة اتباع الوصفة العربية في التعامل مع القضية الفلسطينية وفاعليها، إذ من المعلوم أن غالبية الأطراف العربية تعاملت مع الملف الفلسطيني بطرق مواربة، بمعنى أنها حاربت فعلياً الفعل الفلسطيني المقاوم، وادّعت، من جهة أخرى، استمرارها بدعم القضية الفلسطينية وناسها، واكتفت بهذه السردية رغم اتضاح عيوبها وعدم فاعليتها على أرض الواقع، وكونها لم تكن أكثر من استراتيجية تبريرية للتخلي عن القضية الفلسطينية.
ما يؤكد هذه الحقيقة مسارعة إدارة الشرع إلى استقبال الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، مع إدراكها أنه ليس العنوان الحقيقي للملف الفلسطيني، على الأقل، انطلاقاً مع فهمها الثوري طبائع الأمور، ومن حقيقة أنها سلطة ثورية رفضت الأمر الواقع في سورية وشرعية نظام الأسد الإشكالية. وقياساً على ذلك، كان يجب ألا تخدعها الصورة المصدّرة للقضية الفلسطينية وسلطة عبّاس بوصفها مجرّد واجهة ترضى عنها إسرائيل والبيئة الإقليمية. ولكن يبدو أن إدارة الشرع فضّلت التكيف مع مقتضيات المرحلة الإقليمية على مطابقة سياساتها بالقناعات والمبادئ التي تأسّست عليها.
تدرك واشنطن وتل أبيب أن تأثير الفصائل الفلسطينية في سورية على الصراع مع الفلسطينيين ضعيف وغير فاعل
وفي كل الأحوال، ورغم السهولة النسبية التي ينطوي عليها تعامل إدارة الشرع مع ملف الوجود الفصائلي الفلسطيني في سورية، سواء لضعف هذا الوجود وافتقاده هياكل فعلية على الأرض، أو بالأصل لوجود رأي عام بين فلسطيني سورية كاره لأغلب الفصائل التي لها وجود وتمثيل في دمشق، وميله بدرجة كبيرة صوب حركتي فتح وحماس، لأسباب تاريخية، إلا أن الأمر ليس بالسهولة المُتصوّرة، على الأقل، من وجهة نظر الأميركيين والإسرائيليين، إذ إن فتح هذا الملف سيجر الى الخوض في تفصيلاتٍ كثيرة، تشكّلت على مدار عقود من وجود هذه الفصائل في دمشق، وتشمل علاقاتها ببعض من المجتمع الفلسطيني السوري، مثل ملفات عائلات الشهداء وترتيب أوضاع العاملين في هذه الفصائل، والتشعبات الإقليمية لوجود هذه الفصائل وانتشارها على خريطة تشمل لبنان وفلسطين، والعراق أخيراً، وهذه مسائل يصعب تفكيكها بسهولة أو في وقت قصير، ما يُبقى هذا الملف قيد المتابعة إسرائيلياً وأميركيّاً، وبالتالي، يعطيهما مساحة لإبقاء الضغط على إدارة الشرع بذريعة عدم إيفائه بالشروط المطلوبة منه.
تدرك واشنطن وتل أبيب أن تأثير الفصائل الفلسطينية في سورية على الصراع مع الفلسطينيين ضعيف وغير فاعل، لكنه إيراده ضمن قائمة الشروط التي تفتح الباب لإزالة العقوبات نوع من التذكير بفائض القوة التي لديهما في المرحلة الراهنة، وهو أقرب إلى الشرط المفتوح دائما على سلسلة التفاصيل التي لا تنتهي، والمُراد منه إضعاف القوّة التفاوضية لدمشق في إطار سياسة إخضاعها للشروط الإسرائيلية الأميركية.
المصدر: العربي الجديد