
حوادث فردية أو تصرفات غير مسؤولة أو تجاوزات، كلها وغيرها مفردات يستعملها بعض من الرسميين السوريين الجدد، ومن لفّ لفّهم ومن دافع عن سياساتهم -أو انعدام سياساتهم- ومن ينافق لهم نتيجة تخرّجه من مدرسة التمجّد العريقة في القدم في تاريخ هذا البلد الحزين، وذلك لوصف ما حدث ويحدث من اعتداءات موثقة وموصوفة، دموية كانت أم ترهيبية، تجاه بعض أفراد المجتمع السوري، الذي ما زال في طور البناء منذ نيل هذه البلاد استقلالها عن الحكم العثماني.
إذاً، فقتل المئات وحرق الزرع والضرع ما هو إلا مجرد تجاوزات ليس إلا. وأما الإعدامات الميدانية لأفراد بتهمة الانتماء للجيش السابق، وذلك على الرغم من حصولهم على تسويات صادرة عن السلطة الجديدة، فما هي إلا تصرفات فردية. والقضاء على أسر بأكملها ما هو إلا انتقام إنساني مبرر، مقابل ما عانته مجموعات أخرى تمثل الأكثرية العددية في المجتمع طوال عقود من التعذيب والتغييب، والقتل، والقمع، والاستبداد.
إذن، ما يجري وجرى في غابات الساحل السوري ما هو إلا تطبيق حرفي لشريعة الغاب. يجب علينا أن نبحث عن العذر المبرر قبل أن ننطق بكلمة، محاولين إدانة ما نعتبره كبشر ذوي حس إنساني مقتنعين -ويا للهول- بأنه جريمة موصوفة وأن العقاب تقره المحاكم وليس الأفراد ولا حتى الجماعات. وإن لم نفعل فسنكون حتماً من المارقين وعملاء النظام البائد وننتمي إلى الفلول. ولن يشفع لنا ماضينا وحاضرنا في مواجهة القمع والاستبداد بأشكاله المختلفة وبتجلياته المتجددة. لقد أصبح الرأي وحرية التعبير مشروع ضحايا، ليس فقط لسلطة متشددة أو مجتمع منغلق، إنما أيضاً لجماعات تعتبر نفسها بأنها خليفة الله على الأرض وأداة السلطان في البلاد، بمعزل عن أي قاعدة قانونية أو أخلاقية أو حتى دينية.
من خلال خطوة محمودة، تم تشكيل لجنة للتحقيق في أحداث الساحل وطلب منها أن تعطي نتائجها خلال شهر. وفي انتهاء المهلة المحددة، قررت السلطات المختصة أن يتم التمديد ثلاثة أشهر إضافية. المتفائلون، وكم أتمنى أن أكون منهم، ما زالوا ينتظرون نتائج تحقيقات هذه اللجنة لاتخاذ موقف صريح وحاسم مما حصل في شهر آذار/ مارس المنصرم. هذا ما يمنعهم عن إبداء الرأي فيما حصل. وبالمقابل يبدو أن شدة ثقة مرتكبي مذابح الساحل -ومن خلفهم- بنتائج ضحلة لأعمال هذه اللجنة، قد أوصلتهم إلى الاستمرار في “التجاوزات والتصرفات الفردية”، وإن على نطاق أضيق في المكان عينه. وكذلك، فقد سمح التهاون والاستخفاف بما حصل في الساحل بتوسع الأعمال الانتقامية العشوائية في مناطق عدة. وصارت عبارة العدالة الانتقالية جزءاً من الخيال الجمعي ليأخذ مكانها مفهوم العدالة الانتقامية، وما تعنيه هذه العدالة من ضياع للحقوق، واستغلال البعض للوضع القائم لتصفية حسابات عشائرية أو عائلية أو جرمية.
هناك فئة تنطحت للدفاع وللتبرير إثر كل حدث وانتهاك ترتكبه جهات محسوبة على النظام الجديد، كما حصل مؤخراً أثناء قيام مسلحين بالإغارة على مطعم دمشقي، وإخراج رواده بطريقة مهينة وتحت الضرب، حتى ولو اعترفت الجهات الرسمية بهذا الاعتداء منددة به وقيامها بفتح تحقيق حوله. سارع المنافقون لإيجاد المبررات وصاروا خبراء في علم النفس وفي علم الأخلاق. ولتبرير قيام هذه العصابة بالاعتداء، جرى وصم نشاط المطعم بالملهى الليلي، أو ما يعرف شعبياً بـ”الكرخانة”. وبالتالي، لأصحاب هذا التوصيف، كل ما جرى مبرر. على أساس أي قانون؟ قانون الغاب الذي حكم حيوات السوريين والسوريات طوال خمسة عقود اعتقدنا أن صفحتها قد طويت. أما الناشط الثوري الذي تعرض للضرب والإهانة من قبل عناصر أمنية لوجوده في سيارته إلى جانب خطيبته في مدينة حمص، فلا بد للمنافقين وللمبررين أن يصنفونه فوراً من بين المارقين الذين يهتكون أعراض العذارى.
المنافقون المبررون الحامدون والشاكرون، ليسوا فقط من العامة التي تتأثر بعواطف عابرة ومشاعر تلقائية مرتبطة أساساً بماض مليء بالخضوع للحاكم، باعتباره منزهاً عن ارتكاب أي خطأ أو شذوذ مسلكي، كما الدفاع عن أزلامه مهما ارتكبوا من فظائع.
أوضحت الأشهر الماضية ولوج بعض من النخبة، إن جاز التعبير، في مستنقع التبرير والنفاق لمن هو نفسه لا يبحث عمن يبرر له، معترفاً في أغلب الأحيان بأن تجاوزات ما تحصل، وعليه أن يتفادى تكرارها. وبالتأكيد، فإن مفهوم النخبة الذي نستخدمه لوصف فئة محددة من الناس تتميز عن العامة تعليمياً واقتصادياً ليس إلا. أما المتعارف عليه من توصيف تنزيهي عن المعاصم وتمييزي في الأخلاق، فهو خطأ مبين. النخبة تتصدر المشهد عنوة في مرحلة تاريخية محددة. وهي تبتعد عن الأوصاف الإيجابية إنسانياً وأخلاقياً، لكونها مستفيدة مرحلياً من وضع محدد ومن أشخاص محددين يملكون زمام الأمور.
من آمن بوقوع التغيير فعلاً وبحصول الشعب السوري على حقوقه -ولو بشكل محدود- التي كانت مغتصبة ومنتهكة، عليه أن يتابع الإيمان بهذا الأمل، من دون أن يقع في فخ السذاجة التحليلية والتفكير الرغبوي، الذي يجعله أقل من متمجد وأكثر من منافق.
منذ قرن ونيف، كتب عبد الرحمن الكواكبي أن “المتمجّدين أعداء للعدل أنصار للجور، لا دين، ولا وجدان، ولا شرف، ولا رحمة”.
المصدر: المدن