
تفترض إسرائيل، في اعتداءاتها المتوالية على سوريا، أن المسؤولين في المنطقة عموماً، يقرؤون جيداً محتوى الرسائل الموجهة إلى هذا الطرف أو ذاك، بيد أن المسألة أكبر وأهم من مجرد فهم لمحتوى التهديدات الكامنة في هذا السلوك العدواني لها إزاء محيطها، ولا سيما أنه متزامن مع اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني واللبناني والسوري، وصولاُ لتحدياتها لإيران التي تعدها مصدر تهديد لمصالحها في المنطقة، وربما تركيا -وهي المواجهة الخفية- تبعاً لبعض الحيثيات، التي تشير إلى تضارب المصالح في سوريا، ما يؤكد أنها تحاول تمييز وضعها كقوة عظمى إقليمية في المنطقة، أو كقوة إقليمية مهيمنة في منطقة المشرق العربي.
يأتي ضمن ذلك بالطبع، سعي إسرائيل لفرض نوع من منطقة استراتيجية أمنية، كعمق حيوي لها، يمتد إلى نحو 80 كيلومتراً، يجنبها ظهور أي قوة مستقبلية معادية لها، أو يجنبها مفاجأة “طوفان” آخر، بعد ذلك الذي اختبرته في السابع من أكتوبر/تشرين أول (2023).
وفق هذا التصور، تأتي محاولة إسرائيل، عبر تلك الاعتداءات، التي وصلت إلى حد التلويح باستهداف “قصر الشعب” في جبل قاسيون، حيث مقر القيادة السورية الجديدة، لأن تفرض ذاتها كفاعل داخلي في صياغة الوضع السوري، في موازاة الفاعل التركي (الاسلامي) الذي تخشى إسرائيل من تمدده منفرداً في سوريا، سواء أتى ذلك بادعاء ما تسميه “حماية الأقليات”، أو بدعوى مواجهة إرهابيين وجهاديين قرب حدودها، أو تحت غطاء تحجيم النفوذ التركي، والذي تداعب فيه مطالب الكرد السوريين.
وفي كل الأحوال، فإن إسرائيل تجد نفسها في هذا الوقت مطلقة اليد في العدوان على أي طرف تتوخى إضعافه أو تحييده، أو فرض أجندتها عليه. وفعلياً، تنفذ ذلك في كامل المنطقة، وهذا يشمل سوريا، التي تمر بمرحلة انتقالية، يأتي ضمنها حالة ضعف الدولة والمجتمع، إضافة إلى تدهور الأحوال الاقتصادية والمعيشية، والتي يصعب معالجة الحكومة لها في ظل بقاء العقوبات الأميركية عليها، وتهالك البني التحتية، إضافة إلى فقدان القدرات العسكرية.
باختصار، إسرائيل خصوصاً في ظل حكومتها اليمينية المتطرفة، ترى في الظرف الراهن في سوريا الممزقة فرصتها السانحة. وهنا لا أعني فقط التقسيم الجغرافي الحالي الذي يدار من دول عديدة، وإنما الوضع الاجتماعي الذي تطول مخالبه الطائفية يوماً بعد يوم، فتستثمره إسرائيل للمضي في مشروع قديم يقضي بإنهاء حالة الفرادة الإسرائيلية في المنطقة، عبر تعميم نموذجها في بلدان المشرق العربي، كدولة طائفية ـ دينية.
ومن المفيد التذكير أن دولنا ليست محصنة ضد التقسيم الطائفي مهما صغرت مساحتها أو كبرت، فقد حصل ذلك فعلياً في لبنان والعراق، وإسرائيل الآن بصدد تحويل سوريا إلى النموذج ذاته. بمعنى أن الأمر لا يتعلق برغبتها أو استطاعتها دعم قيام دول مستقلة للمكونات التي تدعي دعمها، إذ الأهم بالنسبة لإسرائيل هو تقسيم الشعب السوري، أو إعاقة تمثيل الشعب أو المجتمع في سوريا، في دولة مواطنين متساوين، وذلك وحده يفسر محاولتها تشجيع وتغذية الانقسامات الهوياتية، على أسس طائفية وإثنية في المنطقة.
ولعل ما يجب إدراكه من قبل كل السوريين والمعنيين في سوريا سواء الحكوميين أو رجال الدين، أن السعي الإسرائيلي الحقيقي هو تثبيت حالة الطائفية في المنطقة، وليس إقامة السلام للطوائف. فلو كانت تريد السلام واستقرار المنطقة فقد عرضه عليها الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع، ومصلحتها منطقياً مع النظام الحاكم أكبر من مصالحها مع المكونات. لذلك فتصديق إسرائيل أنها حريصة على أي سوري أياً كانت اللاحقة التي ينتمي لها، درزي أو علوي أو كردي أو سني، هو خطأ جسيم وحالة استثنائية، ولكن الخطيئة الكبرى هو وصولنا إلى هذا الانحدار المجتمعي الذي جعل من هوياتنا متفجرات قاتلة ودموية ومستباحة.
المصدر: المدن