
منذ اندلاع التوترات الأمنية في ريف دمشق بتاريخ 29 نيسان الماضي، وامتدادها إلى أطراف محافظة السويداء، نتيجة اشتباكات بين مجموعات مسلحة وصفتها وزارة الداخلية بـ”جماعات غير منضبطة” وفصائل محلية من تلك المناطق، أُرجعت الأسباب الظاهرة لتفجر الأحداث إلى تسجيل صوتي تضمن إساءة للنبي الكريم ﷺ. إلا أن جذور الأزمة تعود إلى ما هو أعمق من ذلك، إذ ترتبط ببدايات تحرير دمشق، وتحديداً بعد نحو ثلاثة أسابيع من دخول العاصمة، حين منعت فصائل من السويداء رتلاً تابعاً للأمن العام وقوات الشرطة من دخول المحافظة، بذريعة “غياب التنسيق المسبق”، ومنذ ذلك الحين، دخل الجانبان في سلسلة من الاتفاقيات التي سرعان ما انهارت واحدة تلو الأخرى، بفعل انعدام الثقة وتصاعد التوترات بين الطرفين.
وقد اعتبر الشيخ حكمت الهجري، أحد مشايخ العقل الثلاثة لدى طائفة الموحدين الدروز، في حينها، إرسال الرتل إلى السويداء محاولة لفرض “سياسة الأمر الواقع”، معبّراً عن استيائه من “المماطلة في تنفيذ التسويات” الخاصة بأبناء المحافظة ممن سبق أن خدموا في صفوف نظام بشار الأسد المخلوع، ومؤكداً في الوقت ذاته رفضه تسليم السلاح قبل تشكيل “جيش وطني حقيقي”.
من أين بدأت شرارة التوترات الأخيرة؟
ظهرت أولى بوادر التوتر يوم 28 نيسان داخل السكن الجامعي في محافظتي حمص ودمشق، إثر مشاجرات بين طلاب على خلفية المقطع المسيء. وبحلول فجر اليوم التالي، تحولت الأحداث إلى اشتباكات مسلحة في مدينة جرمانا بريف دمشق، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى.
تدخلت القوى الأمنية سريعاً، وتمكنت من بسط سيطرتها على المنطقة، أعقب ذلك اتفاق يقضي بتسليم السلاح الثقيل على الفور، مع تعزيز انتشار قوات الأمن العام داخل المدينة. كما تم تحديد مهلة زمنية لتسليم الأسلحة الفردية غير المرخصة، على أن يُحصر السلاح بيد مؤسسات الدولة، وتنتشر وحدات تابعة لوزارة الدفاع على أطراف جرمانا لتأمينها.
وبهدف حفظ الاستقرار، انتشرت قوات الأمن في محيط مدينتي صحنايا وأشرفية صحنايا، لتأمين المنطقة ومنع وقوع أي اعتداءات، لا سيما أنها تخضع لسيطرة فصائل من الطائفة الدرزية. غير أن مجموعات وصفتها وزارة الداخلية بأنها “خارجة عن القانون” تسللت من أشرفية صحنايا إلى الأراضي الزراعية المحيطة، ونفذت هجمات استهدفت التحركات الأمنية، مما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين ومقتل 16 عنصراً من قوات الأمن، وفقاً لبيان الوزارة. وقد بدأت القوات لاحقاً بفرض سيطرتها على المنطقة بالتنسيق مع وجهاء محليين.
تمدد الاشتباكات نحو السويداء
امتدت المواجهات من ريف دمشق إلى محافظة السويداء، إثر محاولة فصائل محلية إرسال تعزيزات إلى صحنايا لدعم الفصائل المتمركزة هناك، لكن مسلحين “مجهولي الانتماء” اعترضوا طريقهم على أوتوستراد دمشق، ما أسفر عن سقوط قتلى ودفع الفصائل إلى التراجع نحو السويداء.
في أعقاب ذلك، اندلعت اشتباكات جديدة في الريف الغربي للمحافظة، تركزت في قرى عرى، كناكر، الصورة الكبرى، رساس، القريا، والثعلة. تمكن الأمن العام من السيطرة على قرية الصورة الكبرى، قبل أن يُعاد تسليمها إلى وحدات شرطة محلية من أبناء المحافظة، بعد التوصل إلى تفاهمات مع مشايخ العقل.
التوصل إلى اتفاق مع تمسك برفض تسليم السلاح
على خلفية التصعيد، عقدت مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز اجتماعاً يوم الخميس الماضي، بمشاركة مرجعيات دينية ووجهاء وممثلين عن أبناء الطائفة، وجرى الاتفاق على تهدئة الأوضاع واحتواء التوتر، مع تأكيد الالتزام بالثوابت الوطنية ووحدة الأراضي السورية.
وجاء في بيان الاجتماع أن أبناء الطائفة يشكّلون جزءاً أصيلاً من الوطن السوري، مع رفض قاطع لأي دعوات تقسيم أو انفصال. وطالب البيان بتفعيل دور وزارة الداخلية والضابطة العدلية من أبناء المحافظة، كما دعا الدولة إلى تحمل مسؤولية تأمين طريق السويداء – دمشق وترسيخ الأمن في مختلف المناطق.
وفي مساء السبت، أصدرت مشيخة العقل بياناً ثانياً أكدت فيه التزامها بمخرجات اجتماع الخميس، ونفت صدور أي قرار يتعلق بتسليم السلاح، معتبرة أن السلاح “رمز للكرامة”، وأن المجتمعين أجمعوا على الاحتفاظ به. وجاء هذا التوضيح رداً على أنباء تم تداولها حول إخراج السلاح الثقيل من المحافظة، والإبقاء على السلاح المتوسط في مخازن تحت إشراف شيخي العقل حمود الحناوي ويوسف جربوع.
من جانبه، أعلن محافظ السويداء مصطفى البكور، يوم الأحد، بدء تنفيذ بنود الاتفاق على الفور، مؤكداً أن المحافظة ستعمل على معالجة النقص في المواد الأساسية الناجم عن إغلاق طريق دمشق – السويداء. وأضاف أن الأمن العام سيتولى مسؤولية تأمين الطريق وتسيير دوريات بشكل مستمر لطمأنة الأهالي.
وأشار البكور إلى التحاق عدد من أبناء السويداء بجهاز الأمن العام للمساهمة في تنظيم الأمن الداخلي وتفعيل المؤسسات، لافتاً إلى أن ما يُعرف بـ”المجلس العسكري” في السويداء رفض الاتفاق من دون طرح بدائل واقعية.
كما شدد على أن انتشار السلاح لا يعزز الاستقرار، وأنه “لا مبرر لوجود سلاح ثقيل أو متوسط بيد المدنيين، ويجب حصره بيد الدولة”.
تصعيد إسرائيلي خطير تحت ذريعة “حماية الدروز”
كثّف الاحتلال الإسرائيلي عملياته العسكرية في سوريا بذريعة “حماية الدروز”. فقد شهد الجنوب السوري منذ بداية التوترات تحليقاً مكثفاً للطيران الاستطلاعي، أعقبه تنفيذ “غارة تحذيرية” قرب دمشق، في 1 أيار الجاري، ضد مجموعة وصفها بـ”المتطرفة”. وفي فجر الجمعة، نفذت طائرات إسرائيلية غارة استهدفت موقعاً قرب القصر الرئاسي في العاصمة دمشق، فيما وصفته حكومة الاحتلال بأنه “رسالة واضحة” للإدارة السورية.
بالتزامن مع ذلك، أفادت صحيفة “جيروزاليم بوست” أن مقاتلات تركية حلّقت في الأجواء ذاتها، وأرسلت إشارات تحذيرية للطائرات الإسرائيلية عبر أنظمة الحرب الإلكترونية، ما حال دون حدوث مواجهة مباشرة. وفي اليوم نفسه، ارتقى أربعة من أبناء السويداء من جراء غارة إسرائيلية غربي المحافظة دون معرفة الدوافع والأسباب.
كما حطّت مروحية إسرائيلية في السويداء، مساء الجمعة، محملة بـ”مساعدات ومعدات”، قالت إسرائيل إنها مخصصة لدعم الدروز في مواجهة “تحديات إنسانية”. وتبعتها سلسلة غارات هي الأعنف منذ بداية العام، استهدفت مناطق بريف دمشق ودرعا وحماة.
وفي تطور لافت، أعلن جيش الاحتلال يوم الأحد إجلاء خمسة جرحى سوريين من أبناء الطائفة الدرزية للعلاج داخل إسرائيل، وأكد دخول اللواء غسان عليان، منسق حكومة الاحتلال في الضفة الغربية، إلى سوريا ولقاءه بزعماء دروز من دون الكشف عن تفاصيل إضافية.
إسرائيل تُوظف ملف الدروز لأهداف توسعية
بحسب صحيفتي “هآرتس” و”يديعوت أحرونوت”، تستخدم حكومة نتنياهو ملف الدروز لتبرير تصعيد عسكري يهدف إلى توسيع الحرب خارج غزة وبسط النفوذ في الجنوب السوري. واعتبرت “هآرتس” أن الغارات قرب القصر الرئاسي رسالة موجهة للإدارة السورية، لكنها في جوهرها تُعرّض حياة المحتجزين الإسرائيليين للخطر في غزة وتخدم أجندة توسعية.
كما انتقدت الصحيفة تصريحات وزير الدفاع يسرائيل كاتس، ووصفتها بأنها غطاء سياسي للتدخل في شؤون سوريا بذريعة “حماية الأقليات”. أما “يديعوت أحرونوت”، فرأت في تصريحات نتنياهو وكاتس محاولة لكسب الداخل الإسرائيلي، وكشفت عن انقسام داخل القيادة الإسرائيلية بشأن جدوى هذا النهج، وسط مخاوف من التورط في مواجهة مباشرة مع دمشق.
واتفقت الصحيفتان على أن القيادة الدرزية في سوريا ترفض الانفصال وتتمسك بالهوية الوطنية، في حين تؤكد دمشق أن إسرائيل تستخدم ملف الدروز لتبرير تدخلها، مشددة على أنها تحمي جميع مواطنيها من دون تمييز.
ما آخر تطورات الوضع في ريف السويداء؟
يسود هدوء حذر في الريف الغربي لمحافظة السويداء، يتخلله اشتباك متقطع وقصف متبادل بقذائف الهاون والأسلحة الثقيلة بين مجموعات مسلحة محلية.
وشهدت قريتا الدارة والثعلة، مساء الأحد، مواجهات عنيفة بين مجموعة مسلحة من عشائر البدو من جهة، والمجلس العسكري المتمركز في مطار الثعلة من جهة أخرى، ما أدى إلى تصاعد التوتر في المنطقة.
وأدت هذه التطورات إلى حركة نزوح واسعة من عدد من بلدات الريف الغربي باتجاه مناطق أكثر أماناً داخل محافظة السويداء، في حين فرّت عشرات العائلات من قرية الدارة باتجاه بلدات المليحة الشرقية والكرك وناحتة في ريف درعا الشرقي.
كما أسفرت الاشتباكات عن تدمير وحرق عدد من المنازل في قرى الريف الغربي، وسط مخاوف الأهالي من تجدد المواجهات وتوسع رقعتها في الساعات المقبلة.
جهود وساطة لاحتواء التصعيد
تزامناً مع التصعيد الميداني، انطلقت جهود وساطة مكثفة بقيادة شخصيات سياسية ودينية عربية. فقد زار وليد جنبلاط، الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، العاصمة السورية، والتقى الرئيس أحمد الشرع، وأعلن عن اتصالات مع دول إقليمية شملت تركيا، السعودية، قطر، والأردن، بهدف التوصل إلى تهدئة ووقف لإطلاق النار.
من جهته، أعلن شيخ عقل طائفة الدروز في لبنان، سامي أبو المنى، عن إجراء اتصالات رفيعة المستوى مع قيادات محلية ودولية لاحتواء ما وصفها بـ”الأحداث الدامية”.
كما شدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ضرورة أن تتضافر الجهود لبناء سوريا موحدة، محذّراً من أن الاستفزازات الإسرائيلية لن تؤدي إلا إلى مزيد من الدماء والمعاناة.
نداءات دينية للتهدئة ونبذ الفتنة
منذ اللحظات الأولى للتوتر، ظهر الشيخ سليمان الهوارين، إمام مسجد شهبا، في مقطع مصور ناشد فيه العقلاء من رجال الدين ومشايخ العقل وشيوخ العشائر اتخاذ موقف موحد لوقف تصرفات الخارجين عن القانون، محذراً من الانزلاق إلى العنف، ومؤكداً أن “السلم الأهلي خط أحمر”.
بدوره، حذر الشيخ حمود الحناوي من الفتنة الطائفية وخطر المندسين الذين يسعون لاستغلال الفوضى، مطالباً بمحاسبتهم.
كما رفض المتروبوليت أنطونيوس سعد، مطران بصرى حوران وجبل العرب والجولان للروم الأرثوذكس، “خطاب التحريض والعنصرية”.
أما مفتي الجمهورية الشيخ أسامة الرفاعي، فقد وجّه نداءً للسوريين دعا فيه إلى التكاتف ونبذ دعوات الثأر، قائلاً إن “كل دم سوري محرّم، وكل قطرة دم من أبناء هذا الوطن غالية ولا يجوز التفريط بها”.
المصدر: تلفزيون سوريا