
كان الحدث الأهم الذي أخذ حيّزاً من النقاش العام للمصريين الأسبوع الماضي، تسجيلاً صوتياً للرئيس الراحل جمال عبد الناصر وهو يتحدّث، بأريحية، في حديث مطوّل مع الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، وهو مقطع من عشرين دقيقة بدا أنه مبتورٌ من سياقه وبقيّته، يدور حول مبادرة وزير الخارجية الأميركي في حينه (1970) وليم روجرز وقبول عبد الناصر لها على مضض، والجدل الذي أثير حينها حول إمكانية التحرير بالضربة القاضية أو بالنقاط والمراحل، والموقف العربي الذي يصف عبد الناصر وموقفه بالانهزامي.
التسجيل الذي انتشر، أو بالأحرى أرادت له أن ينتشر أجهزة سيادية مصرية، وربما عربية، لتبرير هذا التخاذل العربي الكبير تجاه القضية الفلسطينية وما يجري في غزّة، والذي سيظل عاراً يلاحقنا جميعاً، يتجاهل تماماً السياق المهم للحديث، توقيتاً وظروفاً وفعلاً وفاعلين، ويركز على بعض مفرداتٍ استعملها عبد الناصر بنفسٍ جريحة وباستنكار شديد. ومع ذلك، هذا التسجيل نفسه من أكثر ما يدين أنظمة عربية انهزامية عديدة تريد اجترار خيبتها على التاريخ، وكأنها تقول لو أن عبد الناصر بيننا لما فعل أكثر مما فعلنا.
انقسمت الآراء، ووصلنا إلى الجدل في عبد الناصر نفسه، وهو شخصية جدلية بكل تأكيد، واعتبرته واقعيّاً ساداتياً أكثر من السادات نفسه من آراء سطحية، وأنه بناءً على ما جاء في هذا التسجيل اختار الانعزال والقطرية سبيلاً للخلاص من المزايدات العربية أو بتعبيره الاستنكاري لموقف كثيرين من القادة العرب في حينه “إما أن تحاربوا أو نحاربكم”، أو وضعوني في الماء مكتوفاً.
لستُ ناصرياً، لكن الإنصاف يجعلك تشعر أحياناً بأن السياق أهم من الكلام أو من الحدث ذاته، سواء في التحليل أو التفسير أو التنبؤ، فالكلام لا يُقال في فراغ، وبالذات كلام الساسة، وإذا كانوا زعماء بحق، فالأمر أعقد. أهمية السياق الذي قيل فيه محتوى التسجيل لا تقلّ أهمية عن الكلام نفسه، فبعد أن تسمعه مرّة واثنتين وتضعه في سياقه، لن تجد الكثير مما يدين عبد الناصر، بل قد لا تجد ما يدينه أصلاً، بل الرسالة المستبعد وصولها منه هو انعزالية عبد الناصر وانهزاميته. فأولى الملاحظات التي يجب أن يشار إليها أنه تسجيل صوتي يرجع إلى أغسطس/ آب 1970 أي بعد ثلاث سنوات من نكسة يونيو 1967، وما تبعها من أزمات داخلية وخارجية ارتبطت بمظاهرات الطلبة الشديدة وصراع مراكز القوى داخل النظام والتراجع الشديد لمعدّلات النمو والتشغيل وظهور الحاجة للديون والقروض والمساعدات، واضطراب شديد في العلاقة مع “البعث” وقياداته بفرعيه في العراق وسورية، وتوتر علاقته مع قيادات الجزائر وليبيا والسعودية ودول الخليج.
ما لا يتصوّره عاقلٌ، أن يفهم من كلام عبد الناصر في التسجيل المتداول الترسيخ لانهزامية مصر وانعزالها وتحلّلها من التزاماتها القومية العربية
وثانيها أن الرجل خاض حروباً مع الكيان قبل تأسيسه في الـ1948، وفي سياقها دخل معترك السياسة، وهو في ريعان شبابه، وشهد تحالفاً عالميّاً استعمارياً ضد محاولة تثبيت الاستقلال الوطني في عدوان 1956 بعد تأميم قناة السويس، ودعم حركات تحرّر وطني في كل الدنيا تقريباً، ولا تزال مصر تعيش على سمعته في كثير من نقاط نفوذها، سواء في أفريقيا أو دول حركة عدم الانحياز التي أسهم في تأسيسها ودفع ثمنها، ثم ذهب بعيداً في اليمن لمواجهة نفوذ إسرائيل، وصولاً إلى نكسة 1967 التي جرى توريطه فيها، ثم وصف بعدها بمسدس الصوت أو العنتريات أو غيرها من أوصاف ألصقها به الساداتيون وليبراليون مصريون شديدو الطفولية، فإن كان انهزامياً فقد انهزم في معارك، بينما الآخرون مهزومون من دون معارك.
ما لا يتصوّره عاقلٌ، أن يفهم من كلام الرجل في هذا التسجيل الترسيخ لانهزامية مصر وانعزالها وتحلّلها من التزاماتها القومية العربية، وبالذات على يد أحد أهم زعمائها ورموزها. وتختلف أو تتفق مع عبد الناصر، حتى في التسجيل المذكور، فهو لا يقول أبداً: “هذه ليست قضيتي، وما لنا وللعرب؟”، بل يقول بوضوح وبمرارة شديدة بصوت المقهور قهر رجالٍ حاولت بكل ما تملك، إنه وافق على مبادرة روجرز استعداداً للحرب، تمهيداً لإخراجهم من سيناء دون اتفاق ولا اعتراف. لم تعطوني السلاح ولا المال لأحارب، حتى السوفييت طلبنا منهم 40 طائرة أعطونا 16 فقط، ومع ذلك اعتبروني انهزامياً وتحالفوا، ولن أترككم، بل سأدعمكم. لم يقل الرجل لقادة العرب على طريقة قوم موسى: “اذهب أنت وربك فقاتلا”، بل قال: ليذهب العراق والجزائر وليبيا وسورية والأردن واليمن الجنوبي للقتال هناك، وأنا سأدعمهم بـ50 مليون جنيه، بينما كانت نفقات العراق العسكرية 70 مليوناً.
وإذا جئنا إلى مبادرة روجرز، فقد كان هدف الرجل من الانخراط في تلك المبادرة كسب الوقت وتثبيت حائط الصواريخ لحماية مدن القناة والعاملين في خطط ومشروعات تخدم حرب الاستنزاف التي لولاها لما تجرّأ السادات على حرب تحرير أو تحريك كما سماها هو وأنصاره من الوقوعيين. إذن، كان عبد الناصر كأهل غزّة وفصائل فلسطين يفاوض ويده على الزناد وعينه على خطط الخلاص، وليس كمن يدفعون أثمان هزيمة متوهّمة من دون أن يخوضوا حرباً في كثير من بلاد العرب اليوم.
لم يلم عبد الناصر الضحايا كثيراً، بل كان ممن أسّسوا ودعموا عديدين من كتائب الفدائيين، سواء في غزّة أو الضفة الغربية أو المهاجر الفلسطينية
في هذه الحرب، خط الرجل خطوطاً مهمة لأية مقاومة تدرك أثمان خياراتها، فها هي مصر الدولة العربية الأقدم والأكبر تقبل في ظل حرب استنزافٍ أن تخسر عشرة من أبنائها مقابل فردٍ واحدٍ من الكيان الغاصب للأرض، الذي لا يرى فيها أرضاً محتلة، بل يراها أرضه الموعودة من النيل إلى الفرات، وهذا ما ينتقده عبد الناصر بوضوح في التسجيل المنتشر، بينما يعتبره الدولاتيون وإعلاميو “السامسونغ” وبعض ليبراليي التسطيح الفكري ضرباً من الخطابات الشعبوية والأساطير الدينية غير المؤثرة في الواقع أو حتى ضرباً من مبالغات الإسلاميين في إطار الصراع الهوياتي معهم.
لم يقل الرجل قطّ في التسجيل المنتشر، ولا في أي سياق آخر بالقبول بحدود 1967 حلاً نهائياً للقضية، ولم يشر إلى التطبيع من قريب أو بعيد، ولم يعترف بأي احتلال إسرائيلي لأي أراضٍ عربية، بل كان يشير إلى أن قبول الملك حسين بالضفة الغربية، ولو منزوعة السلاح، أو حتى قبوله هو بالعودة إلى حدود ما قبل 5 يونيو/ حزيران، خطوة أولى وتكتيكية لتحرير ما فقدناه في حرب 1948، بينما يستجدي قادة العرب اليوم حل الدولتين، وكأن إسرائيل تقبل به في ظل تصعيدها اليمين المتطرف القائل بيهودية الدولة.
ثم إن مصر في زمان عبد الناصر كان بإمكانها أن تنعزل فيما بعد الجلاء والخروج الاسرائيلي من سيناء قبل النكسة بسنوات، من دون أن تُواجه بلوم شديد، لكنها اختارت، عن وعي، الانخراط بفعالية ومواجهة مصيرها الذي يفرضه عليها موقعها، وهي المنهكة من حروبٍ كبرى ضد قادة النظام الدولي حينها، بريطانيا وفرنسا، ومعهما إسرائيل، فماذا فعل من لم يخوضوا حرباً خمسة عقود من دون أن يحققوا تنمية ولا استقلالاً ولا ديمقراطية، بل يمارسون ديكتاتورية جوفاء يدفع الشعب ثمنها بلا مقابل.
لم يلم عبد الناصر الضحايا كثيراً، بل كان ممن أسّسوا ودعموا عديدين من كتائب الفدائيين، سواء في غزّة أو الضفة الغربية أو المهاجر الفلسطينية، بل وفق التسجيل، إنه يتحسّب من قيامه بعمل ضده، إن هو خان القضية والتزم الانهزامية. لا وجه للتشابه بين صاحب الخطط التنموية والمواقف القوية عربياً وأفريقياً ودولياً عبد الناصر ونظام فرّط بجزر في البحر والنيل وأراضٍ سالت عليها الدماء، سوى أنه كان ديكتاتورية عسكرية تقوم على معادلة الصمت وتحقيق التنمية والاستقلال، مقابل نظام لا يحقق تنمية ولا استقلالاً ويكمّم جميع الأفواه ويبيع الشركات والمصانع التي أسسها عبد الناصر ومن سبقوه لينفق على مجده الشخصي وعلى الدائنين. لا يبرّر أبداً أي موقف عربي حالي، في أي حال، بل لو كان عبد الناصر حيّاً، لاعتبر المتخاذلين والمبرّرين جميعاً، بمن فيهم بعض أبنائه أعداء له وللأمة العربية.
المصدر: العربي الجديد